سحب محافظ البصرة «ماجد النصراوي» يده حين مدت مبعوثة أوروبية لحقوق الإنسان يدها لمصافحته، معللاً ذلك بأسباب دينية.. من المؤكد أن السيدة شعرت بالحرج، ولا نعلم على وجه اليقين ماذا ردت عليه، لكن تعليقات عديدة قيلت على لسانها، وأكثرها تتهكم على هذا الشكل من التدين الزائف، منها مثلا: «أقدّر التزامك الديني، لكنني أعلم أيضا أن الإسلام يحرّم السرقة والنهب والسلب والاختلاس والفساد والعدوان والقتل..». وفي تعليق آخر: «يستحرم مصافحة النساء، لكنه لا يستحرم مصافحة اللصوص والمجرمين وعقد الصفقات الفاسدة»..
وفي قصة متداولة، أن مجموعة تجار عرب ذهبوا للصين لشراء بضائع، عبارة عن ملابس وأدوات رياضية، وهناك طلبوا من صاحب المصنع الصيني أن يضع على البضائع «ليبل» لماركات عالمية معروفة، وأن يقلل من مستوى الجودة، حتى يحصلوا على سعر أقل.. وبعد أن نفذ المصنع طلباتهم، قام الرجل بدعوتهم إلى عشاء للاحتفال بالصفقة، فكان شرط تجارنا الأفاضل، عدم تقديم البيرة على المائدة، لأنها حرام.. فرد المدير الصيني مستغربا: «دينكم يحرم البيرة، ولا يحرم التزوير والغش!!».
هذه الأمثلة، وغيرها، ليست للتعميم، إنما تستهدف تلك الفئة من الناس التي تتعامل مع الدين بطريقة انتقائية، رغائبية، وبشكل سطحي، تأخذ منه القشور والشكليات، وتتنصل من جوهره الروحي والأخلاقي والقيمي.. وتركز على المظاهر الخارجية بهدف الاستعراض، أو للتعويض عن النقص الفادح في التدين الحقيقي، أو للتغطية على الخطايا والمثالب، وحتى الجرائم أحيانا.. فمثلا عندما يسافر البعض إلى دولة غربية، فإنه قد يسمح لنفسه بارتكاب الموبقات بأنواعها، لكنه يظل يقظا، وبإصرار شديد على تجنب تناول لحم الخنزير! فلا يرف له جفن عندما يتحرش بامرأة، أو يخالف القانون، أو يكذب على الدولة وعلى الناس، أو يغش، ويخدع، أو يرتشي... أما لحم الخنزير فهو خط أحمر.
في مجتمعاتنا، يمارس البعض ما يُعرف بالتدين الشكلاني، أو التدين الزائف، فيختزل الدين ببعض القضايا الثانوية، مثل الحجاب، اللحية، الدشداشة، عدم مصافحة المرأة، الزواج المتعدد، تأدية بعض الطقوس والشعائر، وبشكل آلي، أو استعراضي، أو موسمي.. نشر الأدعية والابتهالات على الفيسبوك.. وهي كلها أشكال سهلة، لا تكلف صاحبها شيئا، ولا تمس جوهره، وعالمه الجواني، وقد تمنحه بعض الراحة المتخيلة، خاصة حين يظن أن هذه الممارسات تغسل ذنوبه، وتطهره أمام المجتمع.. أو حتى أمام نفسه، بشكل خادع.
المتدين الحقيقي يضع خشية الله أمام عينيه، وهو موقن بأن الله يراه في كل الأوقات.. المتدين المزيف يكون معياره أن العيب والمحرّم والخطأ هو فقط ما يراه الآخرون، لذلك تتولد لديه شخصيتان: واحدة ورعة تقية، وأخرى تمارس كل الشرور التي يستطيع فعلها في الخفاء، أو في غفلة من الآخرين.
وعادة، فإن الشخص الذي يمارس التدين الزائف، يستخدم الدين لفرض قيمه وأنماط تفكيره على الآخرين، أو غطاءً لتمرير مصالحه الشخصية، ولا يكتفي بذلك، بل يتعامل مع الناس بفوقية وأستاذية، ويتشدد بأفكاره، ويكثر من إلقاء المواعظ والنصائح، وقد يلجأ للعنف، وهو دوما منشغل بالحديث عن نقائص الآخرين وسلبياتهم من منظوره المتزمت.. ويمارس عكس ما يقول تماما حين يخلو إلى نفسه، وحين يتحدث عن الدين، يتصنع التقوى ولين القول، لكنه في العلاقات الشخصية، والعمل والتجارة، أو قضايا الجيرة وتفاصيل الحياة الواقعية، ينكشف وجهه الحقيقي، ويظهر ذلك الوحش المتخفي خلف قناع التدين.
في مقولة منسوبة للراحل «علي شريعتي»: «أشفق على الفتاة المسلمة حين تسوء سمعتها؛ فهي لا تستطيع تربية لحيتها لتمحو تلك الصورة».
ولكن، كما يستطيع الرجل أن يخفي تحت لحيته شيطانا؛ تستطيع المرأة أن تخفي خلف حجابها شيطانة.. فهذه المظاهر لا تعبر عن جوهر الإنسان الحقيقي، لكنها الأكثر استخداما في ممارسة ازدواجية الشخصية..
وتتحمل أحزاب الإسلام السياسي مسؤولية كبيرة في نشوء هذه الظاهرة وشيوعها، لأنها سعت إلى أسلمة المجتمعات بالقوة والعنف لصالح مشروعها السياسي، وركزت على القضايا الشكلية، فصار الناس مضطرين للتدين الشكلي لمجاراة الوضع الراهن، أو خوفا من التهديد، أو للحصول على مكاسب.
الالتزام بفروض الدين واجب على كل مسلم/ة، لكن الانتقائية، وازدواجية المعايير، والتستر بعباءة الدين، مرفوضة.. الحجاب واللحية، ومصافحة المرأة حريات شخصية، ولكل إنسان أن يختار نمط حياته وفقا لقناعاته.. لكن عندما تُمارس هذه «الحريات» بوصفها جزءاً أساسيا من الدين، ولا يكتمل الدين إلا بها، تصبح مسائل عامة، ومن حق أي أحد طرحها للنقاش.. خاصة إذا ما لامست وأثرت على الآخرين..
فمثلا تحريم مصافحة المرأة لم يرد بالقرآن، ولا في أي حديث صحيح. وهو موضوع خلافي بين الفقهاء، ومن يستند في التحريم إلى حديث معقل بن يسار «لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له». هو حديث ضعيف، كما أخرجه الطبراني، وحتى لو صح سند الحديث، فلا يعني هذا المصافحة؛ لأن اللمس بين الرجل والمرأة في لغة العرب غالباً يطلق على الجماع، أو الملامسة مع الشهوة.. ومن تثيره الشهوة عند مصافحة المرأة فإن عقله لا يتعامل مع المرأة كإنسان، بل يراها مجرد جسد، وفتنة.. حتى لو كانت أكبر من جدته.. وهذا بحاجة لعلاج نفسي.
على أية حال، قضية المصافحة بحد ذاتها، ليست هي المهمة، المهم والخطير في الموضوع يتمثل بالعقلية التي تتعامل معها، وتجعلها في صف الكبائر، كما تفعل مع بقية الشكليات.. في نفس الوقت الذي تسمح لنفسها بارتكاب فواحش أخرى بحق المرأة، وبحق المجتمع.. أي أنها تتشدد في المسائل الفرعية، وتتناسى المسائل الكبرى.. والمشكلة في تلك النوعية من المتدينين الذي يميلون دوما في المسائل الخلافية لتبني الرأي المتشدد والمتزمت.. ويتركون آراء الفقهاء المعتدلة والأقرب للعقل والحس الإنساني.
«ما خُيرت بين أمرين إلا اخترت أيسرهما» (حديث شريف).
في السياسة، المتعصب دوما إما غبي، أو جاسوس.. وفي الدين، المتعصب غالبا يخفي بداخله شيئا خطيرا، يخشى أن يكتشفه الآخرون.
جنود إسرائيل في ثياب النساء.. ماذا وراء الصور؟
31 أكتوبر 2024