أجمل هدايا التاريخ، تلك التي يتبادلها الأعداء في ما بينهم، وليس الأصدقاء، لأن هزيمة العدو بالغواية ألذ وأقسى من هزيمته بالسلاح، ولذلك دربت الحروب فرسانها وقادتها على التنافس لابتكار هدايا سلام تأسر لب أعدائهم، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر ببال بشر، ما سهل عليهم اختراق الحصون المنيعة، واجتياز البحور السبعة، والتوغل في عمق الممالك النائية، لإيقاع الخصوم في مصائد ناعمة هي في حقيقة الأمر خديعة حرب، كحصان طروادة الخشبي وشاة بني خيبر المسمومة، وربما سجادة كليوباترا، وقلائد اللعنة، وجواري «ألف ليلة وليلة»، وغيرها من الحيل الماكرة، التي أجاد أصحابها اللعب مع العدو بدهاء مخاتل وجذاب، شكل عبر الأجيال والحقب نعمة لأمم ونقمة لأخرى، إلا أنه ظل محتفظا بإبهاره ودهشته طالما أنه جنح إلى التحايل لا التقاتل، فانتصر به على أعتى الأسلحة والجيوش!
«زوربا» و«ترامب» و«العريفي»
مع ترامب اختلف الفارق التكتيكي للخصومة بين ثقافتين، إحداهما علمانية والأخرى مسلمة، فهذا الأمريكي لم يأت إلى بلاد الحرمين غازيا، رغم كل ما شنه من غزوات فضائية ضد الإسلام والمسلمين، إنما جاءنا من الشمال راقصا «على طريقة زوربا»، فالرقص بحد ذاته حالة انسجام تعقد رابطا تناغميا وتبادلا معرفيا بين الإنسان والكون، غير أن المشهد لم يكن مقنعا اجتماعيا وفنيا، لسببين: الأول يكمن بأثقال الكراهية والنفاق، التي حملها ترامب فوق كتفيه فأفقدته مرونته في الأداء وسلخه من ظل زوربا، أما الثاني فتساءل عنه طفل عربي في المهجر، وهو يحاول أن يفك الالتباس بين الخديعة والحقيقة، قائلا: لماذا يرقص العرب بسيوفهم بدل أن يبارزوا بها يا أمي؟ الجواب: لأن الدم لم يَعُدْ عَرَقُ الأبطال يا ولدي، في زمن يسيل به اللعاب لإيفانكا ترامب»!
أما وقد جاد العريفي على طريقة الشعراوي رحمه الله، بفتواه الالكترونية عن المصلحة، فإنه يحق لنا أن نتساءل عن ديانة التسامح وجنسية المصالح، ونحن نتذكر الشهداء في حكاية الإخوة الأعداء، ونستحضر أكبر مزاد علني نظمته دولة الاحتلال قبل سنوات قليلة، خصصته لبيع هدايا الحكام والرؤساء العرب لزعماء بني صهيون بعد النكبة، حينها فقط ربما نعتبر من حكمة محمد علي كلاي لما رأى أن سر القوة في الضربة القاضية ينبع من الداخل، ولا يحتاج إلى بطاقة اشتراك في الأندية الفضائية أو إلى أحزمة وقلائد ذهبية وحفلات تتويج للخسارة!
سي أن أن تكشف: الحقيقة
إن رأيت رجلا شرقيا يفتح باب السيارة لزوجته، فتأكد أن السيارة جديدة، ولتصدق هذا عد إلى مقال فاضح نشرته «سي أن أن» يكشف عن السبب البشع لإقبال وتقبل السعوديين لزوجة ترامب «ميلانيا»، من خلال عرض للتقارير الإخبارية السعودية، التي تتحدث عن أناقتها ومحافظتها، بما يتناسب مع عادات البلد وتقاليده المعادية للمرأة – كما ورد في المصدر- مركزة على عامل الارتياح البصري، بسبب إطلالاتها المألوفة للمجتمع السعودي، وهي تسير خلف زوجها، هادئة، محجوزة، تحت وصاية ذكورية، وبعيدة عن مواقع القرار السياسي والسلطة، وما دام ترامب يتعامل معها كصورة جميلة، في الوقت ذاته الذي يروج فيه الإعلام السعودي لحركة نسوية وهمية تقودها «إيفانكا»، على طريقة والدها الذي يقدم سردية كاذبة للنهوض بحقوق المرأة من خلال سيدات الأعمال، وفي حين ينتقد التقرير هجوم ترامب على ميشيل أوباما لعدم احترامها التقاليد السعودية ورفضها ارتداء الحجاب، يرى أن السعوديين كانوا أكثر رحمة مع زوجته منه حين تمكنوا من إشغال الرأي العام بغطاء مثالي خداع لامرأة جميلة على أتم الاستعداد للبقاء صامتة، رغم أنها السيدة الأولى في العالم، في الوقت ذاته الذي يمنعون فيه نساءهم من مرافقتها في عروض القمة بلا صوت ولا صورة!
صور للفرجة والاختباء
التقارير الإعلامية الغربية عن لغة الجسد، تناولت فيديوهات وصورا تبرهن أن هنالك اضطهادا وتعنيفا من ترامب لميلانيا، وتوترا أو تجنبا من طرفها له، بالإضافة إلى تقارير الكترونية تحلل شخصيتها من خلال الصور الشخصية على «تويتر» أو ما يعرف بـ «السيلفي»، بعيدا عن عدسات المصورين المحترفين، لتبدو فيها أميرة مقفلة ووحيدة في برج عالٍ، تلتقط صورها من علٍ، دائما تقف في خلفية المشهد.. تتغير الفصول وزاوية الالتقاط واحدة، ينهار العالم من تحتها، وهي ثابتة، تعيش داخل قشرتها الخاصة، تجيد التخفي أو الاختباء بقبعة أو نظارة أو زاوية التقاط جانبية، وحين تصور ابنها بالطريقة ذاتها كتعبير عن رغبة ملحة بحمايته أو عزله… لا تحس بأي عار ولا تهتم بالجماهير، تعيش خلف الزجاج، وفي السيارات والقمم الناطحة للسحاب بمنأى عن الأرض وعيون البشر، امرأة من القصص الخيالية للنساء المحاصرات في أبراج، على طريقة «ريبونزيل»، ولكن بلا أمير، أو على طريقة «الفيري تيل» لا تنقذ الآخريات، ولكن تحرص على إنقاذ نفسها فقط!
طيب ماذا عن لقاء «العربية» لإيفانكا ترامب؟ هل وقعت في محظور تجريد المرأة من مكنونها الوجداني والذهني ورجعية الرؤية ما دامت تتعاطى معها كتمثال بلا عقل ولا روح؟
بمقارنة بسيطة بين لقاء «العربية» مع إيفانكا ترامب وبين لقاء القناة الأمريكية الرابعة، تصاب بصدمة حضارية تلاحقك لعنتها، فـ «العربية» تنشغل بأسرار جمال إيفانكا ومستحضراتها التجميلية، مكتفية ببروزها داخل إطار فضائي للفرجة، بينما تتكهن القناة الرابعة بمستقبل إيفانكا السياسي، وخططها التكتيكية لاختطاف البيت الأبيض من أبيها، متسائلة عن مصير القرارات الدولية والعلاقات الاستراتيجية في ظل هذا السعي العنيد المغلف بالعمل التطوعي، والأقنعة الداخلية والوجوه الخفية، بعيدا عن حمى الصورة والنفخ الفضائي!
وبين ميلانيا وإيفانكا، تعثر على الفارق بين نهجي الإعلام العربي والغربي في التغطية الفضائية، ومدى اتساع الهوة بين البصر والبصيرة، بين الصور وما وراءها!
بين عنترة وترامب
لوهلة، تحس برغبة قاهرة للبكاء، ليس من أجل الثروات، التي يتم تبديدها على الأعداء وحرمان الأشقاء المحتاجين منها، دع كل هذا جانبا، فقد أصبح بلا طعم ولا معنى، في ظل «التمسحة الفضائية»، التي تجتاح صحوننا العوراء، وليس أيضا على الكرامة العربية، فهذا خطاب انتهى زمنه، لأن الموضة الفضائية الآن تتطلب مرونة ثقافية، تبيح لعنترة أن يستبدل عبلة بإيفانكا، وبما أننا نعيش عصر التفاعل الالكتروني ونرى ترامب مفبركا بزي عربي، أو مؤذنا أو إماما يقيم صلاة التراويح في تل أبيب، فيؤم بأمة يغيب عنها أئمتها وشهداؤها وأبطالها وعلماؤها وشعراؤها، ولا يسود فيها سوى فضائييها، فهذا يعني أننا أبناء تاريخ ابن حرام، أو لقيط، ولد من علاقة محرمة بين الدسيسة والعار، ووُجد ملقى أمام حائط مبكى، لكنه لم يجد من يبكي عليه ولا حتى الغزاة، على طريقة هرقل في وداع دمشق، ولا من يتحسف على نسبه الضائع كملك أبي عبد الله الصغير، ولا حتى من ينهره وهو يعول كالنساء على ما لم يحافظ عليه كالرجال!
هناك حكمة، أن ترى كل هذا السقوط مصحوبا بزخرفة مشهدية باذخة، تعكس الذاكرة على مرآتين تاريخيتين: محاربة الإرهاب «التطرف الإسلامي» في قمة الرياض، والانتصار للإسلام في «المخطوط القرمزي» للشاعر الإسباني أنطونيو غالا، حيث يقول: «الإسلام هو نحن الإسبان»، مؤرخا لتاريخ الكهولة الحضارية في إسبانيا بسقوط آخر معاقل العرب فيها على يد بني الأحمر، وهو يعنف الأوروبيين قائلا: «لا يمكن لأوروبا أن تصفف شعرها وتترنح كعجوز متصابية بدم خالص، ما دامت كل حضارتها تقوم على عاتق الأندلسيين في إسبانيا»… فكيف يلتقي المشهدان بعروة وثقى للسقوط: التبديد!
كاتبة فلسطينية تقيم في لندن
عن القدس العربي