اختار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الشرق الأوسط محطة أولى لأولى جولاته الخارجية منذ توليه مقاليد البيت الأبيض؛ وكان طبيعياً أن يحظى الشرق الأوسط بأبرز نتائج هذه الجولة. هذا لا يعني أن مشاركة الرئيس بقمة دول حلف الناتو في بروكسل، وقمة مجموعة السبع الكبار في صقلية، لم تكن بلا أثر. ولكن الالتزام الأمريكي بحلف الناتو كان تم التوكيد عليه، بخلاف شعارات ترامب الانتخابية، قبل بدء جولة الرئيس الخارجية. كما أن إدارة ترامب أظهرت منذ أسابيع رغبة في إعادة التفكير في الموقف من اتفاقية باريس حول المناخ، وهو الأمر الذي شغل المجتمعين في صقلية. بمعنى، أنه إن كان هناك من جديد في محطتي بروكسل وصقلية، فهو بالتأكيد ليس جديداً تماماً. أما في الشرق الأوسط، فكانت عواقب الزيارة سريعة وذات أثر ملموس، سواء ما تعلق منها بخيبة الأمل في إقدام ترامب على إحداث التغيير المرتقب في بعض من سياسات أوباما، أو في تبنيه مواقف تساعد على تعزيز أمن وسلم المنطقة وشعوبها.
كانت ثمة توقعات في أنقرة بأن سيد البيت الأبيض الجديد سيحرص على وضع مسافة كافية بينه وبين السياسات التي اتبعها أوباما في العراق وسوريا، سيما تلك الخاصة بالتحالف مع امتدادات تنظيم حزب العمال الكردستاني في سوريا، والتساهل مع امتداداته في العراق. ومن المؤكد أن الأتراك لم يتركوا فرصة منذ تولي ترامب مسؤوليات الحكم في يناير/ كانون ثاني الماضي إلا وحاولوا فيها إيجاد أرضية مشتركة مع الأمريكيين، أرضية تأخذ في الاعتبار مصالح تركيا الحيوية، من جهة، والاهداف التي يرغب الأمريكيون في تحقيقها، من جهة أخرى. أبدت تركيا استعدادها للمشاركة الفعالة في إخراج داعش من الرقة والشرق السوري، سيما بعد أن حققت عملية درع الفرات إنجازات حقيقية وغير قابلة للانتكاس في جرابلس والباب، مشترطين وضع نهاية للتحالف الأمريكي مع وحدات حماية الشعب وتجليات العمال الكردستاني الأخرى في سوريا. لقاءات مسؤولي أجهزة الاستخبارات في الدولتين، وقائدي الأركان التركي والأمريكي، توجت بزيارة إردوغان لواشنطن، التي شملت اجتماعين مطولين مع الرئيس ترامب؛ تلاها لقاء ثان بين الرئيسين في بروكسل. النتيجة، في النهاية، كانت رفض المقترحات التركية، والتزام إدارة ترامب بالمقاربة التي وضعت أسسها إدارة أوباما. وقد بدأت بالفعل إمدادات السلاح النوعي والثقيل للوحدات الكردية، مواكبة لجولة ترامب الشرق أوسطية.
وليس ثمة ما يشير إلى أن ترامب سيعمل على استرضاء الأتراك بطرد الوحدات الكردية من منبج، غرب الفرات، أو إعطاء الضوء الأخضر لعملية تركية مشتركة مع حكومة إقليم كردستان العراق لطرد قوات العمال الكردستاني من سنجار، غرب الموصل، أو تعهد خطوات فعلية لإقامة مناطق آمنة في سوريا.
حظي ترامب في زيارته للمملكة العربية السعودية باستقبال أسطوري، قصد به تعزيز موقعه القلق في واشنطن، وحصل على صفقات بمئات المليارات لشراء السلاح الأمريكي أو الاستثمار في البنى التحتية الأمريكية، بهدف مساعدته على الوفاء بوعوده لتجديد المقدرات الأمريكية وخلق فرص عمل جديدة. ما قدمه الرئيس، في المقابل، يمكن تصنيفه إلى قسمين: الأول، كان التوكيد على التحالف الوثيق مع السعودية ودول الخليج وعزم الولايات المتحدة مجابهة التوسع الإيراني. ولكن، لا في كلمته، ولا في المؤتمر الصحافي لوزير خارجيته، أوضحت إدارة ترامب الإجراءات التي تخطط لاتخاذها على صعيد مواجهة إيران وطموحاتها الفائضة في الجوار العربي. ولما كان المشروع التوسعي الإيراني تجلى في مناطق وأزمات محددة، ابتداء بالعراق ولبنان وسوريا، وصولاً إلى اليمن، كان لابد أن يوضح ترامب، أو أحد مسؤولي إدارته، ما ينبغي فعله في هذه الدول، وكيفية التعامل مع أزماتها بما يكفل التصدي للنفوذ الإيراني. وهنا، أيضاً، لم يكن هناك من مجرد إشارة.
القسم الثاني مما قدمه ترامب يستدل عليه بالتطورات المتسارعة في الوضع الخليجي، التي أخذت في التبلور مباشرة بعد انتهاء القمم الثلاث مع الرئيس الأمريكي. فما إن عاد الزعماء العرب والمسلمون إلى دولهم، حتى انطلقت هجمة إعلامية، إماراتية، أولاً، وسعودية، تالياً، ضد قطر، لا سابق لها. ولأن أحداً ما كان له أن يجد مبرراً لهذه الحملة، فقد اصطنع لها المبرر باختراق موقع وكالة الأنباء القطرية، ونشر تصريحات لأمير قطر، بعد منتصف الليل، قيل أنها تعود لخطاب ألقاه في التاسعة صباحاً. وبالرغم من النفي القطري لحقيقة التصريحات، استمرت الحملة بلا هوادة، تقودها كافة وسائل الإعلام السعودية والإماراتية. والمدهش، أن الإجراءات التي قامت بها الإمارات والسعودية لحجب مواقع وسائل إعلام قطرية، في سياق المعركة غير المفهومة مع الدوحة، سرعان ما وجدت صدى لها في إجراءات مصرية وبحرينية متطابقة. يصعب تصور أن تكون العلاقات الخليحية – الخليجية قد نوقشت مع الرئيس الأمريكي خلال زيارته للسعودية. ولكن ثمة مؤشرات على أن واشنطن ترامب لم تبد اعتراضاً على تغيير في قمة الحكم السعودي، وأن الزيارة شكلت دفعاً معنوياً كبيراً لمعسكر الثورة العربية المضادة. كلا هذين الموقفين لم يكن من الممكن الحصول عليهما من إدارة أوباما، حتى في لحظات ارتباكها الأخيرة في الشرق الأوسط.
كان الملف الفلسطيني المحطة الثالثة لنتائج جولة ترامب؛ وكما قضايا الشرق الأوسط الملحة الأخرى، كان للقضية الفلسطينية نصيبها من التوقعات التي واكبت زيارة الرئيس الأمريكي. خلال الأسابيع القليلة السابقة على وصول ترامب إلى فلسطين، روجت أوساط السلطة الفلسطينية صورة باعثة على التفاؤل لاجتماع البيت الأبيض، الذي كان الرئيس ترامب عقده مع الرئيس عباس، مؤكدة على دفء الاستقبال الذي حظي به الأخير والوعود التي تلقاها. وكان من المتوقع أن يسمع العالم من رئيس الدولة الأهم في العالم ما يشير إلى تصوره لحل المسألة الفلسطينية، الحل الذي بشر ووعد به طوال الشهور منذ توليه مسؤولياته. ولكن الرئيس لم يقل شيئاً يبعث على الاطمئنان، على الأقل من زاوية رؤية الفلسطينيين للمسألة. اتيحت لترامب فرصة كبيرة ليعلن التزاماً واضحاً بحل الدولتين، أو التذكير بالسياسة الأمريكية التقليدية المعارضة للاستيطان اليهودي في الضفة الغربية. ولكن الرئيس تجنب كلا المسألتين. ما لم يتجنبه ترامب كان التوكيد الجازم على التزام إدارته بأمن دولة إسرائيل، والإيحاء بأن جهوده لتوسيع نطاق السلم العربي مع إسرائيل بدأت تؤتي ثمارها.
فما الذي سيترتب على ننائج جولة ترامب في المدى القصير؟ على صعيد السياسة الخارجية التركية، ستتحول خطوات أنقرة المترددة نحو تعزيز العلاقات مع موسكو إلى خيار استراتيجي، بهدف صنع توازن مع خيبة التوقعات من التحالف التقليدي مع الولايات المتحدة. على المستوى العربي، من المتوقع أن تكون الحملة على قطر مقدمة لتصعيد في ليبيا، بهدف توكيد وتأمين موقع حفتر في قيادة الدولة الليبية الجديدة، ودفع الأوضاع في اليمن نحو الانقسام، بجهد إمارتي وموافقة سعودية، وتحرك حثيث في السعودية لإحداث التغيير الذي طال ترقبه في هيكل الحكم. فلسطينياً، لا يجب النظر إلى اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي في جوار الحرم القدسي الشريف إلا باعتباره مؤشراً إلى أن حكومة نتنياهو تنظر بارتياح أكبر إلى مواقف واشنطن والعواصم العربية من جهود الإسراع في عمليات الاستيطان وتهويد القدس.
عن القدس العربي