ألعبُ بالكُرَةِ القُطْنيّةِ ، في الشارعِ ..
لم تكن السيّاراتُ قد ارتكبتْ أخطاءَ الزِّلزالِ ،
ولم تكن الأضواءُ قد امتلأت
بالأرْصِفةِ الضَائعةِ ،
نرى بالقمرِ المُشْتَعلِ ،على صفحاتِ الليل ، حجارَتَنا ،
ونصيحُ بأعلى ما في النَوْرَسِ مِن شَبَقٍ ،
ويمرُّ رجالٌ ، يقصدُ أكثرُهُم جامِعَ حارَتِنا ،
ويكون بأنْ أخذوا الجَنَباتِ الضيّقةَ طريقاً للهِ ،
ونلهثُ مثلَ النّرجسِ في الجَبلِ الشتويِّ ،
ولا نتعبُ ..
كُنّا مثلَ صغارِ الخَيلِ نُسابِقُ أصواتَ الّلعبةِ ،
نتشاجَرُ ، نصْرخُ ، نعْرَقُ ،
نمسحُ ما رَشحَ من الماءِ على الأكمامِ ..
ونضحكُ ..
كُنّا في حُلمٍ لا يتكرّر ،
وأكادُ أرى بضعةَ فتيانٍ تركوا أصداءَ الملْعَبِ
للنسيان .
***
الأوّلُ ؛ أغراهُ الكَرْمُ الخَمْرِيُّ ،
فَغَمَّسَ أفئدةَ العُشّاقِ
بماءِ العنبِ المَصْهورِ،
وأيقظَ ما في الجَمْرِ من الزَّغَبِ الحَرَّاقِ،
وَغَسَّلَ آنيِةَ الغُرباءِ بِدَمْعِ الشَّوقِ ،
ونادى في الليلِ على الصُوفيِّ
ليشربَ ما أَمْكَنَهُ مِن خَمْرٍ،
ليثوبَ إلى الصَّحْوِ ،
ويأخذَ في جُبَّتِهِ المؤمنَ والكافرَ،
ليروا ما في الكَشْفِ مِن الضّوءِ ..
ويبقى المشْرَبُ والنّدمان .
والثاني ؛ ناداهُ الموقدُ !
كانت ظُلْمَتُه ضاريةً ،
والعتمةُ لا تُنبِئُ بصباحٍ يُشْرِقُ،
فمضى للغابةِ يَجْمَعُ ما يَلقى مِن حَطبٍ،
أخضرَ أو يابِسَ ،
حتى تجتمعَ النجماتُ ،
ويرجعُ هذا الليلُ نهاريّاً ،
ليرى خُطْوتَهُ في الدربِ الشائِكِ ،
ويعيدُ لغُرفَتِهِ مَا أخَذَتْهُ الغِربانُ
من الشُرْفَةِ والحقلِ ،
ويرفعُ صورةَ بلدَتِهِ للحائط ِ،
إذْ هدمَتْهُ الجرّافاتُ ..
وما ظلّ سوى التّينِ الشوكيِّ المنسيِّ
وأشباحِ الغُولِ على الحِيطان .
وأمّا الثالثُ ؛ فلقد غادرَ أبوابَ المدرسةِ ،
فقد كان أبوهُ فقيراً حَدّ الكُفْرِ ،
وقَسْوتُه الجاهِلةُ سِياطاً
تُلْهِبُ أصْداغَ النعناعِ،
وما أدرَكَ أنَّ الجوعَ له سِنُّ الأفعى الحارِيةِ ،
وأنَّ بنفسجةَ القلبِ تموتُ من الفاقَةِ ،
وبأنَّ الأشجارَ ستذوي مِن مِلحِ الجَدْبِ المُتَشَقّقِ ..
لكنَّ الطفلَ فتىً يَكْبُرُ في الوَحْشةِ والحاجَةِ ،
ويرى صَمْتَ أُمومَتِهِ المكسورَ من الذلّةِ والضَّعْفِ ،
وما زال أبوهُ على مقعدِهِ في الزاويةِ الخرساءَ ،
بلا عملٍ ،
يُطْرقُ ويخبِّئُ عينيه وراءَ أكُفَّ الرَّعْشَةِ،
ويسحُّ لهيباً مِن جَمْرٍ مطحونٍ ،
يكوي وَجْهَ الزمنِ المُتَغَضِّنِ ..
والطفلُ فتىً يهجِسُ ،
في ظلِّ السّكّينِ المثلومةِ ، بالهِجْران .
والرابعُ ؛ مَسَّتْهُ الرّعدةُ
مُذْ كانَ مع الحَبَقِ يطيرُ،
فأوَّبَ في الغَيمِ ،
وحاولَ أنْ يصعدَ أكثرَ نحوَ الشمسِ ،
فذابَ الماءُ،
وزَخَّ المطرُ ..
وما عادَ !
تَعلَّقَ بالبَرْقِ فَوَزَّعَهُ في الشُّعَبِ الماسيَّةِ ،
فتناسَخَ وتَشَظَّى ..
ويقالُ بأنَّ الولدَ الصّاعِدَ للرَّعْدِ تماهى
في الضوءِ الزّاخرِ ،
ويعودُ .. إذا ما عادَ البَرْقُ إلى نيسان .
والخامسُ ؛ عصفورٌ يخفقُ بجناحيْهِ
على مَدِّ السُّورِ ،
لتنبتَ أعشابُ الطّيرِ عليه،
وترجعَ زَقْزقةُ القمحِ على الجدرانِ،
ولكنَّ الصيادَ يحبُّ طريدَتَهُ الخَرْقاءَ،
فَصَوَّبَ نحو الطيرِ ،
وأطْلَقَ فولاذَ السّهْمِ ، فأخْفَقَ ..
ورمى ثانيةً مِن قَوْسِ الغَضبِ سِهاماً أُخرى ،
فانتبَهَ العصفورُ ..
وكان السّورُ بعيداً عن عينِ القَنّاصِ ،
وما زال الطيرُ على مدّ السّور يُجَنِّحُ ،
ويرى بين شقوقِ الأحجارِ صِغاراً
تكبرُ بالرِّيشِ،
وتنبضُ في لَحْمِ الصُّوّان .
والسادسُ يَتَزيّا بِلِسانِ الشَّهْدِ،
ويُلْقي ما حَفِظَ مِن الشِعرِ على الوردِ ،
لِينْشرَ أطيابَ الرّيحِ ،
ويكتبُ لغزالتِنا المَكْحُولةِ أجملَ ما اجْتَرَحَ القَيْسَانِ
مِن الغَزَلِ ،
فَنَحْفَظُهُ لِنُدَبِّجَهُ برسائلِنا ،
ويَخطُّ لنا ما نرجوهُ مِن الحَرْفِ الملهوفِ التوَّاقِ ..
فَنَكْتبُهُ عِشْقاً لبناتِ الجيرانِ ،
ونرمي الأوراقَ أمام الغزلانِ ،
فَتَحْمَرُّ وجوهُ الأقمارِ الممشوقةِ ،
ونعودُ إليه ليكتبَ ثانيةً
ما راهَقَنا مِن رغَباتٍ ،
ونوَشْوشُ أحرُفَنا لتقولَ الأسرارَ
لعلّ لقاءً يجمعُ بين اثنينِ ،
لنحفرَ فوقَ الجذْعِ حروفَ الأسماءِ الأولى ..
لكنَّ الشاعرَ لم يَلْق حبيبتَه يوماً ..
بل ظَلَّ خيالاً ما يلقاهُ من الحُسْنِ ،
وما انْصهَرَ البرقوقُ على شفتيهِ ..
وقد ضاعَ الرّمّان .
وأنا السابعُ ؛ لا أدري هل غادرتُ البلدةَ ،
أم بَقِيَتْ كُرَةُ الأحْلامِ أمامي ؟
لكنّي وحدي في ذاكَ الشارعِ ..
لا أعلمُ إنْ كنتُ كبرتُ ،
أمْ ما زِلْتُ صغيراً ..
وأُنادي أبناءَ الحيِّ ..
فلا صوتَ ولا ردَّ ،
فأين الأتْرابُ ، وأين أنا ؟
بل أينَ الحارةُ والفتيان ؟