مسلسل "الجماعة" بين شهود الرؤية.. وشهود الزور

thumbgen (1).jpg
حجم الخط

 

كما هى العادة فى كل المسلسلات التليفزيونية، التى تتناول أحداث التاريخ المصرى المعاصر، فقد أثار عرض الحلقات الست الأولى من الجزء الثانى من مسلسل «الجماعة» - الذى كتبه السيناريست المقتدر «وحيد حامد» وأخرجه «شريف البندارى» - خلافاً حاداً، حول قضايا جادة يرتبط بعضها بوقائع التاريخ، والآخر بعلم التاريخ، والثالث بالعلاقة بين الدراما والتاريخ.. وهى خلافات متكررة الحدوث عند عرض كل - أو معظم - المسلسلات من هذا النوع، إذ تتحول عادة - لأسباب حزبية وسياسية - إلى حرائق فكرية، يتبادل الذين يشعلونها، عبارات قاسية، وصلت فى الأسبوع الماضى، إلى حد وصف هذا الجزء من المسلسل، بأنه لا يعدو أن يكون «دعارة درامية».

كانت الواقعة الأولى التى أشعلت الحريق، هى اعتراض السيد «سامى شرف»، سكرتير الرئيس عبدالناصر لشؤون المعلومات ووزير الدولة لشؤون الرئاسة فى آخر عهده وأوائل عهد الرئيس السادات، على ما اعتبره ادعاءً غير صحيح من مؤلف المسلسل بأن «عبدالناصر» كان عضواً فى جماعة الإخوان المسلمين، قبل ثورة يوليو، ونفيه القاطع لهذه الواقعة، وتمسكه بهذا النفى، حتى بعد أن اتصل هاتفياً بـ«وحيد حامد»، الذى ذكر له المصادر التى استند إليها فى روايته للواقعة، مكذباً أصحابها، ومؤكداً أن «عبدالناصر» لم يكن - فى أى وقت من الأوقات - عضواً بالجماعة.

والواقعة للأسف صحيحة.. وإذا كان من حق «سامى شرف» أن يشكك فى شهادة بعضهم لأنهم لم يكونوا على معرفة كافية بـ«عبدالناصر» خلال هذه المرحلة من عمله السياسى، فإن من حق «وحيد حامد» أن يشكك فى اعتراضه للسبب نفسه، لأن علاقته بـ«عبدالناصر» لم تكن قد بدأت بعد.. ومن حقنا أن نقول إن «وحيد حامد» قد استند فى روايته للواقعة، وفى مناظرته مع «سامى شرف،» إلى شهود ثانويين، بينما تجاهل الشاهد الرئيسى على صحتها، وهو «خالد محيى الدين»، الذى رواها فى مذكراته.. والآن أتكلم، وفيها يقول إن «عبدالمنعم عبدالرؤوف» - عضو الجناح العسكرى للإخوان المسلمين - كان هو الذى عرّفه - فى آواخر عام 1944 - بـ«جمال عبدالناصر»، ثم عرّف كلاً منهما على حدة بـ«الصاغ - الرائد - محمود لبيب» - مسؤول هذا الجناح، وأنهما انضما معاً إلى مجموعة عسكرية تضم العديد من الضباط، ولأنهما كانا يثيران مناقشات حول رؤية الجماعة غير المحددة، لتحرير مصر من الاحتلال البريطانى، تثير القلق داخل المجموعة، فقد رتب لهم لقاءً بالمرشد العام «حسن البنا»، الذى لم يستطع رغم ما كان يتمتع به من قدرة على الإقناع، أن يبدد غموض هذه الرؤية، فأوصى بنقلهما من الجناح العسكرى، إلى النظام الخاص، الذى كان يقوده «عبدالرحمن السندى»، فأقسما على الصحف والمسدس على الطاعة للمرشد العام فى المنشط والمكره.

وصحة الواقعة لا تنفى تماماً الشكوك التى دفعت «سامى شرف» لتكذيبها، ومن بينها أن دوافع معظم ضباط الجيش الذين انضموا إلى الجناح العسكرى للجماعة، كانت وطنية بالأساس، ولأنهم لم يسمعوا من الإخوان، ما يؤكد أن لديهم رؤية واضحة لتحرير مصر من الاحتلال البريطانى، فقد انفضوا عنهم، وكان من بينهم «خالد محيى الدين» و«جمال عبدالناصر» اللذان لم يستمرا فى عضوية النظام الخاص سوى فترة قصيرة، لا تكاد تصل إلى فترة تتراوح بين عامين وثلاثة.

وربما كان السبب وراء حرص «سامى شرف» على نفى الواقعة من الأساس، يعود إلى أن الذين أرخوا للجماعة من قادتها والمتعاطفين معها، قد بالغوا فى استغلال هذه الواقعة للإيحاء بأن الإخوان قد شاركوا فى صنع ثورة 23 يوليو 1952، وأن «عبدالناصر» قد تنكر لبيعته للمرشد المؤسس وخليفته، حين اصطدم بالإخوان بعد الثورة، فى حين أن هدف المسلسل من روايته الواقعة كان التأكيد على التطور المهم الذى لحق بأفكار «عبدالناصر» فى الفترة التالية على هذه المرحلة من نضاله، حين سعى لتأسيس تنظيم الضباط الأحرار، انطلاقاً من رؤية واضحة وصحيحة بأن القوات المسلحة، هى مؤسسة وطنية تعبر عن المصريين جميعهم، ولا يجوز لها أن تنحاز إلى حزب منهم، أو تكون لسان حال جماعة من جماعاتهم، بل يتوجب عليها أن تكون على مسافة واحدة من كل الأحزاب والتيارات.

أما الواقعة الثانية، التى كانت من بين أسباب اشتعال نيران المناظرة حول المسلسل فى أسبوع عرضه الأول، فكانت واقعة الادعاء بأن الزعيم «مصطفى النحاس»، ما كاد يحلف اليمين الدستورية، عقب تشكيل الحكومة التى أسفر عنها فوز حزب الوفد الساحق فى انتخابات عام 1950، حتى تمنى على الملك فاروق أن يحقق له أمنية طالما حلم بها، وهو أن يسمح له بتقبيل يده الكريمة.. والمصدر الوحيد لهذه الواقعة هو رئيس الوزراء الذى أجريت الانتخابات فى عهده «حسين سرى».. وقد أذاعها فى ثنايا شهادته أثناء المحاكمات التى أجريت بعد ثورة 1952، لقادة حزب الوفد، وتناقلها سياسيون وإعلاميون وباحثون عن هذا المصدر الوحيد من دون أن يكون أحد منهم شاهد عيان عليها.. والأرجح أن «وحيد حامد» لم يقصد بتجسيد هذه الواقعة، التشهير بحزب الوفد، والانتقاص من الدور الوطنى الذى لعبه «النحاس»، بدليل أنه رواها فى سياق مشهد يحتج فيه الملك، على إصرار زعيم الوفد، على أن يكون طه حسين وزيراً فى حكومته، على الرغم من إرادة الملك، حتى لو أدى ذلك إلى اعتذاره عن تشكيل الحكومة، ولكنه - المؤلف - قصد أن يدلل على أن حكومة الوفد الأخيرة، جاءت لكى تتبع سياسة الملاينة مع القصر، لكى يحول بين أحزاب الأقلية وبين تحريض القصر على العصف بحكومته قبل أن يلغى معاهدة 1936، التى كان يضمر أن يتوج نضاله الوطنى بإلغائها.. ومع ذلك فقد كان باستطاعته أن يروى الواقعة على لسان مصدرها الوحيد، بمرويات شهود، لا يوجد من بينهم واحد قد رآها بنفسه، ففى علم - وفيلم - التاريخ، ليس المهم عدد الشهود، ولكن المهم أن يكونوا شهود رؤية وليسوا شهود زور!.

عن المصري اليوم