في ذكرى مرور 50 سنة على الاحتلال يجدر بنا أن نجري ميزان وجودنا في هذه الزاوية العاصفة من العالم. فالاحتلال الإسرائيلي، لسوء حظ المحتلين ممن يروجون له، وقع بعد التفكك الأخير للامبراطوريات التي بنيت على أساس الاحتلال لغرض الاستيطان. فالامبراطوريتان البريطانية والفرنسية تفككتا ليس فقط بسبب الهزائم العسكرية، فالاستيطان من خلال العنف في بلاد أجنبية، كما تبين للإمبراطوريات، ليس مجدياً. فالاستيطان لم يسفك الدم فقط، بل أفرغ الصندوق الوطني. وحتى العبودية في حينه لم تنقض لاعتبارات إنسانية، بل لأن شراء العبد والاحتفاظ به باتا غاليين وليسا مجديين.
لقد سكبنا المليارات على المستوطنات في الخمسين سنة الأخيرة على حساب صندوق الدولة، ولا سيما على حساب تطوير البلدات والقرى، أحياء الفقر، والسكان المستضعفين، بمن فيهم شيوخ بنوا البلاد بدماء قلوبهم. ومن ثمار الازدهار الذي حققه الجيل الضائع والمظلوم هذا يتمتع اليوم مئات الآلاف ممن اصبحوا أسياد مصيرنا. لقد عشت المخاطر التي حدقت بأبناء المظلي، والآن أعيش بقلق الساعات الخطيرة لحفيدي الذي اختار الخدمة في وحدة مختارة. أعرف شجاعة معظم جنودنا. ولكن على مدى الخمسين سنة من الاحتلال تآكلت القيم الإنسانية التي حرصنا على تطويرها. وفي ثقافة الاحتلال يحظى بالتقدير والشعبية جندي يطلق رصاصة فتاكة على خصم ينازع الحياة. هذه الثقافة، التي تروج لمقت وكراهية الخصم الخاضع للاحتلال، تسللت الى مؤسسات عديدة بدءاً برياض الأطفال وحتى بيوت العجزة، من المدارس وحتى الكنس، من الجيش وحتى الأكاديميا. ثقافة الاحتلال تؤدي الى كراهية داخلية، وتفتح مساحة مليئة بالكلام السافل للدعاية الرخيصة.
لقد نزع الاحتلال عن دولة إسرائيل إمكانية العيش في حدود ذات سيادة. وبرعاية جعل "المناطق" المحتلة "إسرائيلية"، لا يحظى الفلسطينيون فيها بالحماية والحصانة اللتين يمنحهما القانون الدولي للخاضعين للاحتلال. نحن ننتهك حقوق الإنسان الأساسية: فنسلب الأراضي من أصحابها الفلسطينيين، نفرض على الفلسطينيين حظر حركة داخل بيوتهم، نحظر عليهم استخدام المقدرات الطبيعية في مناطقهم، ونستخدم ضدهم اعتقالات إدارية دون القدرة على الدفاع أمام المحكمة. وبالمقابل، فان المستوطنين وإن كانوا يخضعون رسميا لإمرة الحكم العسكري إلا انهم يتمتعون عمليا بالفضائل الديمقراطية لدولة إسرائيل، ويتلقون خدمات من الوزارات الحكومية ومن الجيش. خلقنا جهازين قانونيين منفصلين للفلسطينيين والمستوطنين الذين يعيشون في الأرض الإقليمية ذاتها. قبل الاحتلال كانت الحدود واضحة الى هذا الحد أو ذاك، ودارت المواجهات العنيفة الأساسية على الحدود. ولكن بعد الاحتلال أصبحت كل إسرائيل جبهة. ندعو يهود العالم ليأتوا ليعيشوا بسكينة في إسرائيل، مع أن إسرائيل أصبحت عملياً المكان الأخطر للعالم على اليهود بعد الاحتلال. فالإنسان العادي يسعى الى بيت خاص به يربي فيه أولاده ويدير فيه حياة هادئة. ورغم الذكريات المريرة والفظيعة هناك من يفضلون العيش حتى في ألمانيا على إسرائيل. قسم من السكان ممن يفرون من هنا ينتمون في الغالب الى النخبة المثقفة، المبدعة، والحيوية.
كل احتلال هو جريمة حسب القيم الإنسانية، الكونية والديمقراطية. والإفساد الأخلاقي للمجتمع الإسرائيلي وجد تعبيره في تخليد الاحتلال الذي لا يتردد فيه المروجون له من استخدام وسائل تحريض معيبة، بالتخويف والتهديد. والمسؤولون عن الجهاز القضائي يعرضون كخونة في وطنهم، ويجدون انفسهم يدافعون عن انفسهم في وجه هجمات بلا لجام من جانب الحكم. في عصر الاحتلال يشرع النواب قوانين مناهضة للديمقراطية على نحو واضح كقانون التسوية المعيب. ووزيرة العدل شكيد تفعل كل شيء في وسعها كي تقوض ما تبقى من منظومة تحمي العدل. قسم مهم من حياتي قضيته في العراق، بلاد كان فيها الجهاز القضائي أداة تخدم الحكم. أما المواطن البسيط المستقيم فكان يخاف من القضاة عديمي الضمير اكثر مما يخاف من المجرمين. من شأننا في نهاية المطاف أن ننزلق الى الحفرة العتمة للعالم الثالث ذاتها.
غير قليلين سيعجبون: عندنا؟ نعم، بالتأكيد، عندنا أيضا. ليس فقط لان محبي الاحتلال مرصوصو الصفوف وتوجد تحت تصرفهم مقدرات هائلة. ففي الأيام المظلمة ينتشر الاحتلال في كل شيء، ولا يتجاوز أي قسم مهما كان. لأسفي الشديد، فإن المثقفين، الفنانين، الكُتّاب والشعراء، ورجال الدين يهرعون لخدمة الوحش الذي أكل ولا تزال شهيته مفتوحة. وزير التعليم يسعى الى تقييد الحرية الأكاديمية. شعراء وكُتّاب يتجندون ليكونوا أعضاء في اللجان لتصنيف الكتب المسموحة والكتب الممنوعة للمدارس. وزيرة الثقافة تحظى بمساعدة فنانين بلا ضمير في عملية الرقابة، تقييد حرية التعبير، وإطفاء أنوار الديمقراطية في مؤسسات ثقافية مختلفة. هجمات فظة من الحكم على صحافيين وإرعابهم، ويصبح صحافيون غير قليلين أداة بيد الحكم. حقوق الإنسان أصبحت أمرا منكرا، وإضفاء الشر على الآخر المختلف آخذ في التزايد، بدءاً من التحريض ضد المواطن العربي وانتهاء بمعارضي سياسة الحكم. مفكر عظيم قال: إن شعبا يستعبد شعبا آخر لن يكون حرا أبدا. وبالفعل، أمام ناظرينا، داخل بيتنا تقع أمور فظيعة. لقد اصبحنا مجتمعا ممزقا على نحو مخيف وعنيفا في حياته اليومية. فعنف الاحتلال يرتد إلينا كالسهم. بل إن هناك مستوطنين متطرفين مستعدون ليصطدموا حتى بعنف مع الجيش الإسرائيلي، الذي بدونه ما كان يمكن لأي احتلال أن يوجد حتى ولو شهرا واحدا.
إن حظ البلدان المحتلة هو أنها صحت في الزمن المناسب، وعرفت كيف تنسحب، وهكذا حققت الرفاه والازدهار. في العصر الحديث بقينا الديمقراطية الوحيدة التي تحمل عار الاحتلال على جبينها. ولأسفي، داخل إسرائيل لا أرى في آخر الأفق جهة شجاعة ومصممة تتأزر بالبسالة لسحق الأفعى التي تأكل بثبات القيم الإنسانية والديمقراطية لدينا، وتسمم حياتنا. لم يتبقَ لنا غير الأمل بالخلاص من الخارج. نصف حياتي قضيتها تحت الظل الثقيل للاحتلال. الإيرانيون لا يهددون وجودنا كدولة سليمة وطبيعية، فهم غارقون حتى الرقبة في مواجهة تعود الى ألف سنة بين العالم الشيعي والعالم السني. الاحتلال هو العدو اللدود الذي من شأنه أن يبيد دولة إسرائيل.
عن "يديعوت"