بعد َ ليلةٍ مشوّشة الصور والأحداث ، متأرجحة بين يأسٍ ورجاء ..خيّم الصمت على المشفى ..تزامُناً مع بابٍ أطبق على قلبٍ ما خذلني يوماً ساعة حاجتي إليه في ليلٍ أو نهار ،مع فريقٍ من الأطباء باحثين عن مخرجٍ لآلامٍ حاول المُضيّ معها على دروب المعاناة إلى أقصى طاقاتِ إحتماله .
الجو خانق..والأصواتُ فوضى خافتة الخطوات ..،عيون باهتة ...نظرات مُتعبة ، إبتسامات باردة ما تكاد تعلو الوجوه حتى تسقط في غموض طقسٍ إختلطت فيه العفويّة بالتخطيط المُرَكَّز .
بياض يكتسحُ كل ما تقع عليه العين في المكان ، الأسِرّة كأنها أكُفّ مرفوعة تنتظر الرحمة من السماء والأجساد الهزيلة فوقها ، كثمار عصرتها يدُ الزمن فلم تترك فيها إلاّ القشور .
عمال النظافة يروحون ويجيئون في نشاطٍ دؤوب معظمهم من القرى المجاورة للقدس ، كأنهم جاءوا لينسوا السنابل والنوّار ..ومصارعة العصافير على الثمار ، ليكابدوا أخطار طريقٍ تكمن في منعطفاتهِ عيون العذاب ..!
خارج الغرفة يقف حراس الأمن قرب مدخل المشفى يتصفحون الوجوه العابرة ...ويتفحّصون بعضها إذا لزِم الأمر ..في محاولة لتضييق مساحة الخطر الكامن بين تلك الوجوه المختلفة الجنسيات .
شعور بالحزن واحتباس الدمع في عيني ..دفعني للتجول في ردهات المشفى ..
وأمام شباكٍ عريض إقتحمتهُ الشمس ناشرة أشعتها في وسع المكان ، وقفت أرقب منطقة سكنية راقية في ضاحية من ضواحي القدس الغربية .. كانت لنا ذات زمان ..
الشوارعُ أنيقة ..الأشجار مهرجانُ ألوان ...،وبين الأغصان طيور تردد ترنيمتها الصباحية .
البيوت حجارتها ناعمة بيضاء ، في نوافذها ورود ..وفي حدائقها يلعبُ أطفال تملؤهم الصحة والحياة ، يحيط بهم الأمن والأمان من كل الأنحاء ..، هدوء وراحة بالٍ واطمئنان يلف المكان .
وفجأة ...كأن يد شدّتني من عنقي فاعتدَلتُ ، ورأيتُ صورة عريضة امامي تغطي المكان ..
غرف اسمنتية متلاصقة، أزقة موحلة ..، طفولة هزيلة ..وجوه شاحبة ملَّها الإنتظار ..عربات خضار بائسة ..هي الأرض والمحصول والفيضان .مهجّرون على ارصفة المنافي يسألون الزمان :متى بالإمكان .....؟
هناك حيث إمتداد الجذور عذاب .. في عتمة الزقاق حيث الحياةُ رزمة من السياط ..تمزّق ..تحرق ..تستبيح دون مسائلةٍ أو إحتجاج ..
تُعذبني قتامة الصورة ....تمحو جمالية الصورة التي كانت قبل لحظات .
أحد ضباط الأمن يلفت نظري إلى الإبتعاد عن النافذة ، كان الكُره منقوشاً على وجههِ بالثُّلُث وهو يحدثني ..حدّثْتُهُ بلغتهِ ..فرَد عليّ بالعربية أن ألزم حجرة والدتي ، أو انضم إلى افراد اسرتي في الحديقة .
تحسستُ من لَغط العاملين أن حالة حرجة في الطريق ..، ما لبث أن دخل بها طاقم الإسعاف ..
سيدة اسرائيليّة تبدو في الخمسينات ، أصيبت بنوبة قلبيّة بعد تلقيها نبأ مقتل إبنها الضابط في اشتباك مع مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين في مكان ما على الساحل .
العائلة كلها تحيط بالأم على سريرها في قسم الطواريء ..فاقدة الوعي شاحبة اللون ، يتصبب العرق من كل كيانها كأنه دموع القلب والأعضاء ، الأب ذاهل يحدّق فيما حوله غير مصدّق لما يدور ..، ثم يجهش في بكاء مُمِض أليم ..
دموع ..واهات ..بكاء وعويل يملأ المكان ، وقد تناثر الأقارب على المقاعد أو مستندين على الجدران .
مشهد مأساويّ لعائلةٍ ثكلتْ ابنها الشاب ، اللحظات حاسمة ، مُدبَّبة ..مشحونة بالإحتمالات ...
ألمشهد الذي يهزّ أقسى القلوب ...، يهزني لحظات ..غصّة تتجمع في حلقي ، تكاد تمزق حنجرتي ...فأنا إنسان رغم كل التناقضات ..،فاجعة بكل المقاييس تقف منّي على بُعْد خطوات .. ولكني لا أشعرأني جزء من ذلك المشهد ..لا على سبيل المواساة ..أو السؤال ...
هوَّة بلا قرارٍ تفصل بيننا ، تقبع في اعماقها أنهار من الدماء ..مئات أعرفهم ولا اعرفهم من الشهداء والجرحى والثكالى والأرامل والأيتام ...
فمن هنا يُطلّ وجه ابراهيم ..ذلك العريس الذي اغتالت القوات الخاصة فرحته قبل زفافه بيومين..
من الناحية الاخرى يُطل وجه وفاء ، ابنة العشرين ربيعا ..والرصاص يُسقط العلم من يدها ..فترتقي شهيدة نحو السماء .
ألتفتُ يُطل وجه أمين ...وجه مها ..وجه ملاك يحمل في غلالة نور جنيناُ مزق الرصاص رحم امه ليتركها تنزف الحياة في بركة من الدماء ..
بيت تجتاحه الجرافات ... وتعريشة يا سمين تطلّ من بين الركام ، أحلام ذابت تحت التراب . ..وشباب ذوى بين الزنازين خلف القضبان ..
تُحاصرني الأطياف من كل الجهات ..مُعفّرة بتراب الغربة ..مُضرّجةً بالدماء ..
يختفي المشهد الآخر من المكان ولا يتبقى إلا أنا وتلك الأطياف ..
تنفجر الدموع في عيوني شلالات ..
أركض ...أغادر المكان المزدحم بالمأساة ...أصطدم بطاقم التمريض يسحب سرير أمي خارج غرفة العمليات ،أتسمّرُ في مكاني مذهولة ..عيوني الدامعة تستنطق الوجوه ..
يربتُ الجراح الإيرلنديّ على كتفي هامساُ : لا تقلقي ...كل شيءٍ على ما يُرام .