بقلم: اللواء د. محمد المصري
هذا ليس مقالاً مخصصاً لذكرى الانقسام، بل هو مرثاة للحظة فاصلة في تاريخ الشعب الفلسطيني، يضاف إلى لحظات أخرى فاصلة وقاتلة أيضاً، فوعد بلفور المشئوم والنكبة الحارقة وهزيمة 1967 تتشابه في كارثيتها مع الانقسام الفلسطيني الفلسطيني، لأن كل هذه اللحظات حوّلت مسار الفلسطينيين وغيرت تاريخهم وعطلته وأعاقته، أو كل هذا مجتمعاً.
في مثل هذه الأيام، اختارت حركة حماس أن تقوم بما تسميه "حسمها العسكري"، وما نسميه بحق "انقلاب" على كل شيء، هو انقلاب على منظمة التحرير الفلسطينية وتاريخها وإنجازاتها ومساراتها وخياراتها، هو انقلاب على النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وانقلاب على أخلاقيات العمل السياسي الفلسطيني، وهو أيضاً انقلاب في الرؤية والاستراتيجية والمرجعية، اختارت حماس أن تذهب بعيداً، أن تقتطع جزءاً من الوطن وجزءاً من القلب، لتبحر بعيداً في خيارات أقل ما يقال عنها أنها مغامرة أغرقت فيها القطاع وأغرقت فيها الحركة الوطنية الفلسطينية في معضلة عويصة لا أحد يدفع ثمنها سوى الفلسطيني الفقير المعدم، المريض أو المحتاج.
في مثل هذه الأيام اختارت حماس أن تقيم مملكتها على ما يشبه الخراب والدمار، وأن تصر على ذلك مهما كانت الخسائر والضحايا.
الآن، القطاع العزيز يعاني من الجوع والبطالة والخوف، ويعاني من الفساد والمحسوبية والحصار والدمار، الآن، يتحول القطاع في معظمه إلى شعب من الذين يعيشون على الإعاشات والإعانات، والآن، القطاع يحتاج إلى الكثير من الأثمان السياسية والأمنية من أجل أن تفتح بوابة هنا أو هناك.
ما الذي ربحته حماس بعد كل هذه السنوات؟! هل أقامت مجتمعاً مرناً؟! هل أقامت مجتمعاً آمناً؟! هل أقامت دولة فلسطينية أم مزقت دولة فلسطين؟! وهل اقترب الشعب الفلسطيني من أهدافه أم ابتعد عنها؟! ما الذي ربحته حركة حماس من انقسامها؟! هل استطاعت أن تحصل على شروط أفضل للتسوية؟! وهل استطاعت أن تنجو برأسها أو بشعبها أو بقرارها؟! هل استدخلت حماس قوى إقليمية وأجندات أخرى إلى ساحة العمل الوطني الفلسطيني؟! وهل استطاعت من خلال انقسامها أن تجعل من الشعب الفلسطيني أقوى وأكثر قدرة على المواجهة أم أنها أضعفته وأوهنته؟!
الآن، وبعد كل هذه السنين، فإن تجربة الانقسام لم تفعل شيئاً سوى أنها عقّدت الصورة المعقدة أصلاً، وسمح لكل القوى أن تتدخل وأن تفرض شروطها وأن يُستغل الانقسام لتأخير التسوية وتعطيل التنمية وتغيير الأحلاف العربية والإقليمية.
تجربة الانقسام قللت الشرعيات وأضعفت المؤسسات وشتت الجهود الدبلوماسية، كما أنها دفعت الشعب الفلسطيني إلى اليأس والقنوط وأدى فيما أدى إلى تراجع العمل المجتمعي والمبادرة الفاعلة، وسمح لإسرائيل أن تلعب، بل ترقص، بين الفجوات التي تركها الانقسام بين شطري الوطن.
نتائج الانقسام كارثية على المستوى السياسي والاقتصادي وحتى النضالي، فقد تراجعت الصورة وتراجع العمل الجماعي، كما تراجعت القضية الفلسطينية إلى الحضيض.
وعلى المستوى الشخصي، فإن هذه الذكرى تعيد إلَيّ الصورة الأليمة والحادثة الكاوية، حيث كان لعائلتي الصغيرة أن تدفع ثمن هذا الانقسام دماً زكياً وطاهراً، فقد قامت ميلشيات حماس بقتل شقيقي وابنا شقيقاي، لنكون بذلك أول من يدفع فاتورة الانقسام البغيض.
فالانقسام ليس مجرد فكرة أو مسألة أو رأي، بل هو سفك دماء أيضاً، ألم أقل أن الانقسام هو أحد التواريخ السوداء التي سيكون على الفلسطينيين أن يسجلوها في دفاتر ذاكرتهم؟!
دم شقيقي الذي سُفك بأيدي ميلشيات حماس لن يُنسى بالتأكيد، ولكن قد يتم الغفران – على المستوى الشخصي أولاً – إذا قامت حماس بإنقاذ نفسها من جنون عظمتها وركوبها أخطاءها، وذلك بالعودة إلى الحضن الدافئ للشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد منظمة التحرير الفلسطينية.
فالمصالحة المجتمعية لا تتم إلا بين أبناء الشعب الفلسطيني كله، وليس باتفاقات ثنائية أو تحالفات فوقية، أو ارتباطات حزبية مصلحية وآنية، المصالحة المجتمعية ليس بين قبائل، بل هي عملية سياسية تترافق مع آليات قانونية شعبية ورسمية.
الآن، حيث تضيق الهوامش وتُطارد حماس بسبب تورطاتها الخارجية والإقليمية، ليس أمامها سوى العودة إلى مؤسسات شعبها وممثله الشرعي، إن وثيقة حماس الجديدة التي عبَرت عن مرونة ما، إنما تُشكل منصة فكرية وسياسية لإجراء مراجعات في المواقف كلها.
ما نطلبه اليوم، بعد كل هذه السنين، أن تكتشف هذه الحركة أن لا تزيد ولا تراكم من أخطائها، وخاصة بعد التغيرات الدراماتيكية في الإقليم، أن عليها أن تختار الطريق الأقصر والأقل كلفة، وهو العودة إلى حضن شعبها باعتبارها – وكما تدعي – حركة فلسطينية ليس إلا، وإن كل مصالحات هامشية دون حسن النوايا وامتلاك الإرادات الوطنية، لن توصلنا إلى نهاية الانقسام، وشعبنا الذي اكتوى بنار الانقسام ينتظر ممن ارتكبوا الجرائم وقتلوا الأبرياء، الاعتذار وإعطاء الناس حقوقهم، ضمن مصالحة مجتمعية تؤدي إلى إنهاء الانقسام كلياً، وإلا فالكل الفلسطيني ذاهب إلى المجهول، وشعبنا لم يعد قادراً أن يدفع ثمناً دون نتائج تقربه من الحرية والاستقلال، وغزة وقبل أي محافظة أخرى جزء من الدولة الفلسطينية، وحماس تعرف جيداً بأن الشرعية الفلسطينية بقيادة الرئيس أبو مازن، هي القادرة على إعطائها الشرعية.