قفص لحرية الرأي..!

أكرم عطا الله.jpg
حجم الخط

في بيانها الذي أصدرته نقابة الصحافيين؛ تعليقاً على حجب المواقع الإخبارية، دعت للإفراج الفوري عن عضو النقابة الصحافي ظاهر الشمالي المعتقل في الضفة الغربية، وكذلك الصحافي فؤاد جرادة المعتقل في قطاع غزة، ربما أن هذا الحدث وحده يفسر لنا طبيعة النظام الذي حاول الفلسطينيون بناءه لنجد أنه ينزلق بفعل فشلهم في البناء إلى حالة من الصراع والكراهية والخلافات التي لا تنتهي ولم تتوقف بين حركتي «فتح» و»حماس» بل ذهبت نحو الفصيل الواحد .. يبدو أن خبرة الفلسطينيين في الانشقاقات والانقسامات أصبحت هي الثقافة السائدة في المشهد السياسي القائم.
عند قدوم السلطة الفلسطينية منتصف تسعينيات القرن الماضي عملت على مراقبة الصحف القادمة من خارج قطاع غزة فشكلت دائرة الرقابة التي وضعت لها مكاتب تفتيش على معبري رفح وبيت حانون .. كانت الصحف المصرية تصل متأخرة يومين أو ثلاثة عن موعد صدورها بسبب الطريق والحقيقة أنه لم يتم منع أي منها على الإطلاق، وبعد اختراع الإنترنت أصبحت الصحف متاحة للجميع على الشبكة العنكبوتية منذ لحظة طباعتها وظلت الرقابة تعمل على المعابر دون أن تأخذ كل هذا التطور.
هكذا الأمر بالنسبة لقرار حجب المواقع الإخبارية الذي أصدره النائب العام أحمد براك في رام الله ، تلك المواقع التي تعود لاتجاهات معارضة للسلطة وتعيش معها خلافات وتنافساً تجرد من معاييره وضوابطه وطغى على الحياة السياسية التي أصيبت بعطب كبير وأجواء مشحونة بالكراهية والانتقادات والاتهامات.. والنتيجة انقسام شديد تشهده الساحة الفلسطينية بين حركتي «فتح» و»حماس» وبين حركة «فتح» نفسها.
لا نعرف إذا كان النائب العام الذي اتخذ قرار حجب المواقع الإخبارية يعرف أن التلفزيونات والصحف والمواقع أصبحت جزءا من الإعلام الكلاسيكي، وأن هذه الأدوات أصبحت بحاجة إلى أدوات جديدة للترويج لها وذلك من خلال صفحات التواصل الاجتماعي التي تتواصل بمتوالية هندسية، وأن الخبر أو التقرير لا يأخذ صداه ولا ينتشر إلا من خلال العالم الأزرق « فيسبوك أو تويتر أو الواتساب» وتلك لا يمكن منعها وهي الأهم.
لم يعد أحد ،لا أنظمة ولا حكومات، قادراً على السيطرة على السيل الإعلامي المتدفق بغزارة ولا يمكن  التحكم بأي شكل من الأشكال بالنشر فكل صفحة مواطن هي صحيفة وموقع إخباري، ومن العبث الاعتقاد أن إغلاق عشر أو عشرين صفحة في مكان ما وتركه في مكان آخر في العالم يمكن ألا يصل إلى فلسطين .إذ يكفي أن يلتقط مواطن تقريرا أو مقالا ما في الأردن ويضعه على صفحته على الفيسبوك وله آلاف الأصدقاء في فلسطين يعيدون نشره وكل منهم له آلاف جدد وهكذا أصبح الفيسبوك ينقل الأمر لملايين في العالم.
حينها يبقى قرار الحجب قراراً ليس ذكياً على الإطلاق لا يمنع النشر والترويج من جهة، وبالمقابل يصم السلطة صاحبة القرار بالاستبداد ومصادرة حرية الرأي والاعتداء على القانون والاعتداء على واحد من أهم حقوق المواطن التي كفلها القانون وهو حق المعرفة، هذا الحق الذي حاولت مصادرته معظم الأنظمة البدائية في العالم العربي لكنه لم يكن سببا للاستقرار بقدر ما تسبب في حالة من الاضطراب في المنطقة.
من حق الناس أن تقول ما تشاء وفق الضوابط القانونية بعيداً عن الشتم والتجريح الشخصي، من حقها أن تكتب وأن تحلل في إطار المسؤولية الأخلاقية والسياسية والوطنية ،ومن حقها أن تنتقد أعلى السلطات في النظام السياسي الذي بلا شك يخطئ في مسيرته وإلا لما غيرت الشعوب كثيرا من القادة، ومن حق الناس أن تقرأ وتكون رؤيتها ومن حق الآخرين أن  يقولوا دفاعا أو هجوما وبالنهاية فإن المواطن هو الحكم الأخير.
مرفوض أن يحدث لدينا ما يحدث للكثير من المجتمعات العربية. أن تصل جهة سياسية للحكم فتقوم بقمع كل معارضيها، فهذا ليس النظام السياسي الذي قاتل الفلسطينيون من أجله، أن يعتقل الناس بسبب رأي قالوه على صفحتهم الشخصية مثلما حدث للصحافي فؤاد جرادة أو ظاهر الشمالي فإن الأمر أبعد كثيرا من اعتقال صحافيين بتهمة حرية الرأي بل يصل التفكير والتأمل بهذا النموذج الذي يقدمه الفلسطينيون في اللحظة التي سمح لهم ببنائه وإذ بهم يقلدون أسوأ أنواع الاستبداديين في المنطقة وما يثير الضحك حقا أن هذا التقليد يتم في مرحلة تجاوزت فيها التكنولوجيا كل الحواجز.
أن يعتقل شخص بسبب تغريدة على الفيسبوك فهذا يعني إعادة نشر التغريدة لتصل الملايين وأن يتم حجب موقع هذا يعني زيادة انتشاره على السوشيال ميديا، أي فضيحة أكبر دون نتيجة سوى إنتاج المزيد من الانتقاد والمزيد من الأحكام السلبية التي تطلق على أصحاب القرار، ولو كان لدينا انتخابات ربما ستدرك فصائل السلطة أن هذه التفاصيل على درجة من الأهمية بالنسبة للمواطن والقيادة التي يريدها، صحيح أن لفصائل السلطة حضورا بين الشعب هذا الأمر في ذروة الانقسام جعل البعض يدافع عن كل القرارات الخاطئة ارتباطا بالولاء الأعمى أو الولاء المصلحي لكن الأمر على المدى البعيد أكثر خطورة يتمثل بتواطئنا جميعا في صناعة الاستبداد.
قرار حجب المواقع ربما يعكس أيضا فارق الأجيال لأن الذي قرر ربما لا يعرف أن 80% من المجتمع الفلسطيني يتلقى المعلومات عبر السوشيال ميديا، ما يعني أن نشر خبر من خارج الوطن يتم ترويجه ويتلقفه الفلسطيني ويعيد نشره ويصبح لا فائدة من قرار الحجب لأنه لا يحجب حقيقة ، لكن الأهم في ما يحدث هو انعكاس لأزماتنا وخلافاتنا المتأصلة فلو لم تكن هناك خلافات لما ذهبت السلطة الى هذا الحد.. والأكثر أهمية أن الفشل في حل الخلافات هو الحقيقة الوحيدة والباقي تفاصيل لها.
يمكن للتكتلات السياسية والقوى أن تتصارع للأبد.. ويمكن لها أن تستمر في هذا العبث إلى أين تريد، ولكن عليها الكف عن المساس بالناس وحقوقهم ومصادرة أدنى متطلباتهم .. ألا يكفي حرمان المواطن من الانتخابات وحقه بالاختيار فعلى الأقل أتركوه يتسلى بقراءة الأخبار التي لا تحمل أي بشرى طيبة..!