أزمة انقطاع المياه.. الأسباب والحلول (1~2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

الماء عصب الحياة، وشريانها.. والمفارقة أن 1% فقط من المياه التي تغطي ثلاثة أرباع الكوكب صالحة للشرب، و2% مياه متجمدة، والباقي مياه مالحة لا تصلح لا للشرب ولا للري. وهذا الـ1% من المفترض أن يكفي سكان العالم، الذين تتكاثر أعدادهم بصورة مضطردة، ومعها يزداد الطلب على المياه، بالشكل الذي ينذر بأزمات مائية، قد تضع الكثير من بلدان العالم على حافة العطش..
ولأن أي نقص في المياه، أو تدني نوعيته يشكل كارثة حقيقية؛ لذلك، المياه أهم القضايا البيئية والاقتصادية التي تشغل العالم، والمنطقة، وقد تشعل حروب المستقبل.
مع بداية الصيف، تشهد مدن الضفة انقطاعات غير مسبوقة في المياه. في رام الله تتذرع الشركة الإسرائيلية المزودة بتلف أنبوب رئيس.. وإذا كان هذا السبب المباشر، فمن المؤكد وجود أسباب أخرى أكثر أهمية.
في واقع الأمر، تتعمق أزمة المياه في فلسطين لدرجة خانقة، بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وسيطرته على المياه الجوفية، وحرمانه الفلسطينيين منها. ويصف الجيولوجي الألماني «مسرشميد» أزمة المياه في فلسطين بالمفتعلة، ويقول في كتابه «آخر شفّة» إنها أزمة سياسية بامتياز. مؤكدا أن فلسطين من البلدان التي تحتوي على مصادر مياه متجددة جيدة في المنطقة. حيث تشير بيانات الأرصاد الجوية أنه في المائة وخمسين سنة الماضية لم تشهد البلاد سنة واحدة انحبس فيها المطر، وكان معدل سقوط الأمطار على القدس مثلاً 564 ملم في السنة، وهي نسبة تزيد عما يسقط في برلين، وأيضا فإن معدل الأمطار في رام الله أكثر منه في باريس. إضافة إلى أن الضفة الغربية، لديها معدل عال من تغذية المياه الجوفية ومعدل منخفض من الجريان السطحي. وهذا يعني أنها تمتلك مخزونا جيدا من المياه الجوفية، غير أن إسرائيل تمنع الوصول إليها، وتمنع حفر أي بئر جوفية «عميقة».. لذلك موضوع المياه من أهم قضايا الحل النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وبحسب توصيات منظمة الصحة العالمية فإن الفرد يحتاج إلى مائة لتر ماء صالح للشرب يوميا، أو 30 لترا، في حالات الطوارئ والكوارث. بينما لا يحصل الفلسطيني إلا على نسبة أقل من 100 لتر. وطبقا لتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فقد بلغ متوسط استهلاك الفرد في إسرائيل 353 لتر يوميا، وتزداد تلك النسبة لتبلغ 900 لتر يوميا للمستوطن الإسرائيلي.
وغالبا ما يحصل نقص حاد في المياه لدى الفلسطينيين، خاصة في فصل الصيف، لأسباب عديدة، أهمها تحكم إسرائيل في المياه التي تستخدمها أداة للضغط والابتزاز والعقاب الجماعي. كما أن جدار الفصل العنصري أدى إلى حجز الكثير من آبار المياه، وحرمان الفلسطينيين ما يقارب 10 مليون متر مكعب سنويا. والمشكلة في قطاع غزة أخطر، حيث يأتي القطاع في المرتبة الثانية بعد الكويت في قائمة الدول الأكثر حرمانا من مصادر المياه، كما تناقصت كمية المياه الصالحة للشرب حسب مواصفات منظمة الصحة العالمية بشكل بات يهدد بالخطر. وفي ذات السياق يجدر الإشارة إلى أن 200 تجمع فلسطيني تضم أكثر من 50 ألف مواطن لا تصلهم خدمات المياه.
ولكن، حتى لو كانت أزمة المياه في فلسطين مفتعلة، وسببها سيطرة الاحتلال على الخزانات الجوفية؛ إلا أن المشكلة على المدى البعيد أعمق وأكبر، وربما تفوق قدرة أي دولة بمفردها على مواجهتها، خاصة وأن بعض مصادر المياه غير متجددة، وتُستنزف مع الأيام؛ وبالتالي تحتاج إلى البحث عن حلول وبدائل.. وأهمها الترشيد.
وأمام هذه الأزمة برزت وجهتي نظر؛ الأولى تقول: إن استهلاك المياه في فلسطين متدن أصلا، وليس هناك أي مجال لترشيده أكثر، بل إن عمليات الترشيد هي خضوع للسياسة غير العادلة التي تنتهجها إسرائيل في توزيع المياه، ويرفض أنصار هذا التيار أي محاولة للتأقلم مع القيود المفروضة. وتقول وجهة النظر الأخرى: إن ترشيد استهلاك المياه سلوك حضاري، ينبغي أن يكون نهج حياة، بغض النظر عن كمية المياه المتوفرة حاليا.
وفي الحالتين تظل أزمة المياه قائمة، يدفع ثمنها الفلسطينيون غالياً، وإلى أن يتم التوصل إلى حل سياسي شامل وعادل، يضمن حصول الفلسطينيين على حقهم الطبيعي من مواردهم المائية سيظل صانع القرار الفلسطيني أمام خيارين أحلاهما مر: إما التكيف مع القيود التي يفرضها الاحتلال، وبالتالي القبول بالوضع الراهن الشاذ، وإما رفض كل البدائل والإصرار على حصول الفلسطينيين على كامل حقهم، وبالتالي استمرار معاناة الناس اليومية من شح المياه.
وتشير الدراسات إلى أنه في العقود الأربعة القادمة سيزداد معدل استهلاك المياه في كل فلسطين، حتى يصبح الطلب على الماء أعلى من العرض، (بغض النظر عن الوضع السياسي آنذاك)، ما يعني أن حل أزمة المياه (حاليا ومستقبلا) بالوصول إلى خزانات المياه الجوفية بكل حرية لن يكون كافيا، وربما يعني تأجيل المعضلة بضعة سنوات إضافية، وبالتالي فإن وضع إستراتيجيات مائية طويلة الأمد مسألة بالغة الأهمية لكل من سيعيش على هذي الأرض، بحيث تجمع هذه الإستراتيجيات بين الحلول السياسية العادلة والجذرية من جهة، وبين تقنيات المحافظة على المياه، وعلى الاعتدال في استهلاكها، وتقنيات إعادة استخدام المياه الرمادية من جهة أخرى.
وإزاء ذلك، تروج إسرائيل لحلول جزئية، تريد أن تستفيد منها على المستويات الإستراتيجية (السياسية والاقتصادية)؛ مثل قناة البحرين، وتحلية بحر غزة.. وهي حلول خادعة، ستجعل الفلسطينيين يتوهمون إمكانية الحصول على مياه إضافية، بدلا من نصيبهم العادل في موارد المياه القائمة، وهذا سيضعف موقف المفاوض الفلسطيني الذي يطالب بحقوقه من المياه الجوفية. كما سيؤدي إلى فقدان حصة وحق الفلسطينيين في نهر الأردن وإلى الأبد، وعوضاً عن ذلك سيكون عليهم شراء المياه المحلاة من البحر الميت أو من بحر غزة بثمن باهظ. وهي إن مثلت حلولا جزئية لكنها ليست الحلول الأمثل، فالتحلية ليست حلاً مستداماً؛ وهي أكثر كلفة بعشرة إلى عشرين ضعفاً من سعر المياه الجوفية، وتزيد من الاعتماد على الدول المانحة، وهذا الحل تروج له إسرائيل بدلا من منح الفلسطينيين حقهم من المياه الجوفية للحوض الساحلي المشترك.
في المقال القادم، مقترحات وحلول لأزمة المياه.