لا شك في أن الإجراءات التي اتخذتها الدول العربية الأربع وما تبعها من إجراءات إضافية من قبل دول عربية وغير عربية أخرى ضد دولة قطر، والتي طال بعضها قيادات وكوادر إخوانية مقيمة في قطر، ومنها قيادة حركة «حماس»، التي نالها من الحديث الإعلامي على الأقل جانب، دفعها إلى أن تبدأ ترتيبات إقامة قياداتها بالخارج، في مكان آخر.
ولا شك أيضاً في أن حركة «حماس» باتت، ورغم حماية إسرائيل للانقسام طوال عشر سنوات، ورغم أنها شنت ثلاث حروب عليها ليس بهدف إسقاط حكمها لقطاع غزة ولكن بهدف تقليم الأظافر وليس بهدف قطع الأصابع، فإن «حماس» في ضائقة حقيقية، ذلك أنها عولت كثيراً على قطر وتركيا في الإبقاء على حكمها لقطاع غزة، وعلى استمرارها في تحدي السلطة الفلسطينية والوقوف كندٍّ في وجه حركة «فتح»، اعتماداً على الدعم المالي القطري والدعم السياسي التركي.
ويبدو أن «حماس» استشعرت هذا الأمر قبل وقت، أو ربما الأدق القول: إن إقامة رأس «حماس» السياسي خمس سنوات في قطر، بعد انضمامه للتحالف العربي / الإسلامي / الإخواني المشكل من قطر وتركيا والأخوان، قد انتهت بتدجينه، فالمشترك بين قطر وتركيا هو «الاعتدال» بل والصداقة تجاه إسرائيل، وحيث اعتبر خطاب المقاومة الذي انتهجته «حماس» منذ العام 1996 حتى العام 2011، نتيجة تحالفها مع محور الممانعة، فإن نتيجة تأثير قطر/تركيا كان وقف خطاب «حماس» ضد إسرائيل، بل وأكثر من مرة جاءت تصريحات بعض قيادات «حماس» القريبة من «القسام» لتقول: إن إيران هي أكثر دولة في المنطقة داعمة للمقاومة.
وصل التأثير القطري / التركي على «حماس» إلى أن تنتج الحركة أمرين في آن واحد، جاء كلاهما _ على الأغلب كان ذلك بالصدفة _ قبل توجيه الضغط العربي ضد قطر و»حماس» معاً، وهما إصدار الوثيقة السياسية التي تشبه برنامج النقاط العشر لـ م.ت.ف، وتنصيب إسماعيل هنية كرئيس للحركة، وهكذا تحرر عمليا قادة الخارج (خالد مشعل، موسى أبو مرزوق وأسامة حمدان) من المسؤولية تجاه قطاع غزة بالذات.
فجأة إذن تجد «حماس» بغزة نفسها دون أي حليف خارجي، فقطر في ضائقة وتركيا منشغلة بالملف السوري وهي نفسها بدأت تعيد حسابات رهانها على الحصان الإقليمي الخاسر الذي توسمت فيه قبل وقت بأن يكون امتطاء ظهره فرصتها أو وسيلتها لعودة السلطانية العثمانية للسيطرة على العالم العربي كما كان الحال قبل الحرب العالمية الأولى، فصارت «حماس» بغزة، إسرائيل من ورائها ومصر من أمامها.
أفضل تكتيك سياسي يمكن لـ»حماس» أن تتبعه الآن وهي في ضائقة غير مسبوقة، هو أن تلعب على الحبال، وأن تنوع تحالفاتها ومواقفها,حيث أمكن، تماماً كما فعل من قبل ويفعل الإخوان المسلمون، الذين وبحجة أن أهل كل منطقة أدرى بشعابها، يتركون لتنظيمهم المحلي في كل بلد (مصر والأردن كمثال) أن يحدد سياساته الداخلية.
إسماعيل هنية سيبقى مقيماً في غزة، ويتحول مع الوقت رئيساً للحركة فيها كما كان في السابق، ومعه كل قيادة «حماس» في غزة، أما مشعل وأبو مرزوق، فسيحاولان أن يجدا لهما مقراً بين أكثر من خيار في الخارج، لعل الأولوية تكون في لبنان، حيث هناك جالية فلسطينية وتنظيم إخواني بقيادة أسامة حمدان، وحيث يمكن أن يقيما في بيروت وليس بالضرورة في الضاحية الجنوبية _ إلا إذا رفضت الدولة اللبنانية إقامتهما _ لذا كان لقاء أبو مرزوق مع حسن نصر الله، وطبعاً خيار العودة لدمشق غير وارد، نظراً لرفض الرئيس السوري المصالحة مع مشعل، فيما الإقامة في مكان أبعد مثل طهران أو أنقرة سيكون بمثابة اختيار التقاعد السياسي أكثر منه أي شيء آخر.
شيئاً فشيئاً ستظهر «حماس» الفروقات بين تنظيماتها، خاصة تنظيمها المركزي في غزة وتنظيمها في الخارج الذي ربما يركز برنامجه أو مهمته على ثنائية العمل في صفوف فلسطيني الشتات كما لو كان .م.ت.ف، ودعم «حماس»/الضفة الغربية الواقعة تحت ثنائي الاحتلال والسلطة. وبذلك سيأخذ مشعل/أبو مرزوق كل ما وقعا عليه من اتفاقات مصالحة مع الرئيس محمود عباس ومن محاضر جلسات الحوار بين موسى أبو مرزوق وعزام الأحمد، معهما، ويغلقان هذا الملف الذي لن يكون ملزماً في شيء لـ»حماس»/غزة.
أما «حماس»/غزة ففي الوقت الذي كان فيه أبو مرزوق يذهب للبنان للحصول على إقامة له ولزميله خالد مشعل، كان وفدها برئاسة يحيى السنوار يذهب للقاهرة، أما لماذا السنوار وليس هنية، فلأنه عادة يذهب الرجل الثاني كما فعل أبو مرزوق الذي سيبقى رجل «حماس» الثاني في الخارج، لفحص الأمور فإن تم الاتفاق المبدئي يذهب الرجل الأول لتوقيع ما يتم الاتفاق عليه. ولأن السنوار أيضاً رجل تقدم إلى مقدمة مسرح «حماس» السياسي حديثاً، أي أنه بلا مواقف سياسية سابقة يمكن أن تشكل عقبة على استقباله في القاهرة أو عبئاً على مباحثاته مع مسؤوليها.
وكما حدث في كل لقاءات «حماس» السابقة مع الجانب المصري، بقي ملف «حماس» وغزة ملفاً أمنياً بالنسبة لمصر، فلم يلتق السنوار سوى ضباط المخابرات، الذين طلبوا منه إجراءات أمنية محددة للتخفيف على قطاع غزة، لذا فإن توفيق أبو نعيم رفيق السنوار في زيارته للقاهرة كان في اليوم التالي لوصول الوفد لغزة، يذهب إلى الحدود مع مصر ليشرف بنفسه على تنفيذ «الأوامر المصرية» بضبط الحدود.
هكذا فإن «حماس» الخارج لن تعيد الاتصال ولن تكون معنية بالحوار مع السلطة، كذلك «حماس» غزة ستكون معنية بعلاقتها مع مصر بالدرجة الأولى، فيما «حماس» الضفة _ إن وجدت _ هي التي ستحاول أن تفتح أبواب العلاقة مع «فتح» والسلطة، ولن تتضح سياسات تنظيمات «حماس» إلا بعد وقت.