شهدت ساحة القتال على الأرض السورية في الآونة الأخيرة تقدم القوات السورية وحلفائها في معظم أنحاء البلاد، دير الزور، والرقة، وتدمر، وصولاً الى السيطرة على الحدود مع العراق، لكن يبقى حل المسألة السورية سياسياً كما كان دائماً، سواء من خلال مباحثات الأستانة أو جنيف، إلا أن قوى المعارضة على اختلاف تلاوينها باتت تخشى من أن يؤثر هذا التقدم السوري النظامي على الأرض على مجرى المفاوضات لصالح دمشق، وهنا تدخلت قوى ليس لها مصلحة في إنهاء القتال أو القضاء على قوى الإرهاب في محاولة منها لكبح جماح التقدم السوري النظامي، خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل، وذلك من خلال تنسيق ممنهج بينها أمكن الوقوف عليه خلال الأسابيع القليلة الماضية.
ورغم أن التدخل العسكري الأميركي المباشر وغير المباشر، كان مستمراً طوال تلك الحرب، إلا أن ذلك شهد تطوراً خطيراً من خلال تدخل مباشر في نيسان الماضي عندما تم قصف مطار الشعيرات بصواريخ أميركية من خلال الأسطول الأميركي في المتوسط، وما أعقب ذلك من هجمات أميركية استهدفت طائرة عسكرية وأخرى بدون طيار، إضافة الى قصف لثلاث مرات متتالية لقوات متحالفة مع الجيش السوري خاصة بالقرب من حدود سورية مع العراق والأردن، إلا أن الدعم الأميركي المباشر لقوات سورية الديمقراطية بزعم تحرير الرقة، يشكل المعلم السياسي - العسكري للدور الأميركي في الساحة السورية، باعتبار أن من نتيجة ذلك بروز معالم واضحة الى نوايا أميركية لتشجيع أطراف عديدة بالانسلاخ عن الأرض السورية بهدف التقسيم.
وبينما تشير تصريحات القيادات الروسية الى ان الولايات المتحدة لم تعد تستهدف في حربها على الإرهاب قوات "النصرة" الإرهابية، بشكل متعمد، فإن من شأن ذلك التأكيد على أن هناك نهجاً أكثر وضوحاً لاستهدافات أميركا للنظام السوري تحديداً، الأمر الذي ترى فيه موسكو انكفاء عن محاربة الارهاب ودعماً لتقسيم البلاد السورية، باعتبار ان النظام القائم هو ضمانة وحدتها، وقد يتفق هذا الرأي مع ما رآه الرئيس الفرنسي ماكرون عندما أشار في تصريح مفاجئ يعبر عن موقف فرنسي جديد كلياً بهذا الشأن الى ان "رحيل بشار الأسد لم يعد شرطاً مسبقاً وانه لا يرى بديلاً شرعياً له"!.
لهذا، لا يمكن النظر الى التهديد الأميركي الأخير، قبل يومين، برد مشابه لضرب الشعيرات، بعدما زعمت واشنطن ان بشار الأسد قد يكون يعد لشن هجوم كيميائي جديد، وسائل الإعلام الأميركية في معظمها ألمحت الى ان هذا التهديد أكثر جدية، حتى ان بعضاً منها رسمت سيناريوهات للرد، بحيث يكون من جديد من خلال ضربات صاروخية من البحر المتوسط، من دون اللجوء الى ضربات من خلال قوات على الأرض بما في ذلك، ضربات من خلال حلفاء أميركا، حتى لا يتم إحراج القوة الداعمة والصديقة لهذه القوات.
وهنا لا بد من الإشارة الى بعض الملاحظات، فهذا التهديد صدر عن البيت الأبيض في غياب كل من وزير الدفاع جيمس ماتيس في ألمانيا، وغياب رئيس أركان الحرب الجنرال جوزيف دانفورد، في إشارة الى أن هناك خلافات واضحة مع البيت الأبيض حول طريقة التعامل مع المسألة السورية، كما أشارت بعض وسائل الإعلام الأميركية التي أشارت الى ان هناك تخوفات من أن تؤدي سياسة ترامب في الساحة السورية الى الانجرار وراء تورط لا يمكن الفكاك منه، كما جرى الأمر عليه سابقاً في كل من أفغانستان والعراق.
الصحافي الأميركي الشهير سيمور هيرش كتب في صحيفة "فيلت ام زونتاغ" الألمانية تعليقاً على الإنذار الأميركي الجديد، مشيراً الى أن ترامب قام بضرب مطار الشعيرات في نيسان الماضي رغم إبلاغه مسبقاً عبر تقارير مدعومة بالأدلة بأن الأسد ليس له علاقة بما أشيع عن استخدامه السلاح الكيماوي في خان شيخون، إلا أن ترامب أصر خلافاً لآراء العديد من القيادات العسكرية والأمنية على ضرب الشعيرات.
ورغم التحذيرات الروسية، ومخاطر الانزلاق الى تدخل أميركي أكثر سفوراً ومباشرة في الوحل السوري، فإن البيت الأبيض ما زال مصراً على المضي قدماً في حرب غير محسوبة في سورية، ليس في مواجهة قوى الإرهاب، مبتعداً عن حليفه التقليدي تركيا، لصالح سياسة ترمي في نهاية المطاف الى تقسيم البلاد السورية، بالتنسيق مع إسرائيل التي بدورها أخذت تنشط مؤخراً بشكل أكثر وضوحاً بهذا الاتجاه!؟.