ملف «الكيماوي» وسؤال التهديد الأميركي

f2648cbe6a77c86ee92ae014d52e8352.jpg
حجم الخط

 

لم يهدأ موضوع ملف السلاح الكيماوي في سورية منذ بداية النزاع عام 2011 إلى يومنا هذا، فقد ظل هذا الملف مفتوحاً بين الحين والآخر، واستخدم في كثير من المرات لتمرير رسائل من قبل القوى الدولية المؤثرة في النزاع السوري، دون التأكيد الحاسم والتوافق الجمعي حول الطرف السوري الذي استخدم هذا السلاح.
الإدارة الأميركية أطلقت، حديثاً، تحذيرات شديدة اللهجة للنظام السوري، مفادها بأن الأخير إذا استخدم هذا السلاح بالفعل فإنه سيدفع ثمناً باهظاً، والسبب في إطلاق هذه التحذيرات هو رصد المخابرات الأميركية استعدادات سورية لتنفيذ هجوم بالسلاح الكيماوي من مطار الشعيرات القريب من محافظة حمص.
في المرة الأولى التي جرى فيها استخدام السلاح الكيماوي بغوطة دمشق عام 2013، شنت إدارة الرئيس الراحل باراك أوباما هجوماً كلامياً عنيفاً على الحكومة السورية، كان سيستتبع باتخاذ إجراءات عسكرية بحق سورية، لولا التدخل الروسي السريع الذي جنب دمشق عملية عسكرية أميركية. حينها اتفقت واشنطن وموسكو على السرعة في تدمير السلاح الكيماوي السوري، لكن دون أن يستدل بالفعل على الطرف السوري الذي استخدم هذا السلاح، وحصل أن جرى أكثر من هجوم كيماوي على مناطق سورية، آخرها ما وقع في بلدة خان شيخون التي تسيطر عليها المعارضة قبل أكثر من شهرين.
في خان شيخون التي تقع بريف إدلب كان الرد الأميركي سريعاً جداً، حتى أن النبرة الرسمية اختلفت من موقف يدعو إلى الإطاحة بتنظيم "داعش" الإرهابي وعدم الاكتراث لمصير الرئيس الأسد إلى موقف يتوعد الطرفين، ووقتها أطلقت بوارج حربية أميركية متمركزة في البحر المتوسط صواريخ كثيرة من نوع توماهوك على مطار الشعيرات.
وزارة الدفاع الأميركية لم تفصل في موضوع رصد التحركات السورية لجهة ما وصفته بالاستعداد لتنفيذ هجوم بالسلاح الكيماوي من مطار الشعيرات، واكتفى الناطق باسم "البنتاغون" جيف ديفيز بالقول: إن الإدارة الأميركية ليست معنية بالإطاحة بالأسد بقدر ما هي معنية بمحاربة تنظيم "داعش".
لنا أن نلاحظ أن ناطقاً باسم البيت الأبيض هو شون سبايسر والناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية جيف ديفيز، وكذلك الحال المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، جميعهم حذروا النظام السوري إذا ما قرر استخدام الكيماوي، غير أن هايلي ذهبت إلى حد تحذير روسيا وإيران من مغبة استخدام هذا السلاح.
هذا التطابق في التصريحات بين المؤسسات الأميركية الأهم وفي القلب منها وكالة المخابرات المركزية، يعكس موقفاً أميركياً حازماً تجاه ملف الكيماوي، وهو موقف يندرج في إطار المناورة السياسية لتعظيم المكاسب في المربع السوري، الذي يفترض أنه بات يقترب من معركة الحسم العسكري.
غير أن الرسالة الأميركية قد تعني لروسيا وسورية المزيد من التصعيد ضد النظام السوري، إذ ينبغي الربط بين قيام واشنطن بتوجيه ضربات عسكرية ضد القوات الحكومية السورية وبين التحذيرات الأخيرة على أن الإدارة الأميركية قد تمضي في اتخاذ خطوات عسكرية منفردة ضد النظام السوري.
ويبدو أن الإدارة الأميركية وجدت في الملف الكيماوي ذريعة لتأكيد حضورها القوي في النزاع السوري، خصوصاً وأنها تساعد قوات سورية الديمقراطية للإحكام على محافظتي الرقة ودير الزور من تنظيم "داعش"، مقابل فرملة تمدد القوات الحكومية السورية التي باتت تسيطر على مدن مهمة مثل حلب وحمص وحماة.
على أن التحذيرات الأميركية هذه لن تكون الأخيرة من نوعها، وبالتأكيد ستؤثر سلباً على المسار السياسي، لأن الرسالة وصلت إلى النظام السوري ووصلت روسيا التي اعتبرت التحذير الأميركي غير مقبول، إدراكاً منها ومن نظام الأسد أن واشنطن قد تذهب تجاه تصعيد منفرد ومحسوب ضد القوات الحكومية السورية.
وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف رد على التحذيرات الأميركية بأخرى روسية، مفادها بأن بلاده سترد بالشكل المتناسب على أي هجوم أميركي على خلفية ما قيل حول استعدادات سورية لشن هجوم بالسلاح الكيماوي، ويفهم من هذا التحذير أن موسكو لن تقف مكتوفة اليدين إزاء ما يجري من تصعيد أميركي على الجبهة السورية.
أغلب الظن أن النظام السوري ليس في وارد تنفيذ هجوم بالسلاح الكيماوي، لأنه يدرك حجم الأخطار من جراء استخدام هذا السلاح، إلى جانب الحرج الذي يمكن أن يسببه لروسيا التي دعته منذ البداية إلى ضرورة التعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيماوية من أجل تدمير مخزونه من هذا السلاح.
إذن ما يجري له علاقة بإطالة عمر النزاع والسعي إلى تحقيق نوع من التوازن العسكري الدولي في المربع السوري، إذ لولا الدعم الأميركي لقوات سورية الديمقراطية والتركي للجيش السوري الحر، لأمكن القول: إنه لا يوجد في الميدان غير القوات الحكومية السورية وتنظيم "داعش" الإرهابي.
أيضاً قد تكون التحذيرات الأميركية مقدمة لزيادة التواجد العسكري في سورية، مع العلم أن هناك تواجداً أميركياً في الشمال السوري وقاعدة أخرى بالقرب من معبر التنف الحدودي جنوب سورية، وهذا الوجود الذي زاد مؤخراً ودعم بمنظومة صواريخ جديدة بعيدة المدى له علاقة بإعادة توزيع الأدوار والقوة في ظل التغير الحاصل في الخريطة الجيوسياسية لسورية.
عدا رغبة واشنطن في تحطيم "داعش" لكن رويداً رويداً "لهدف في نفس يعقوب"، فإنها ترغب أكثر في وجود حليف سوري قوي يعكس دورها في المنطقة، فهي إن قبلت أخيراً بوجود النظام السوري في الحكم، فأقله أنها لن توافق بسهولة على هذا الوجود دون دفع ثمن، غير أن الثمن هنا مرهون بقدرة روسيا والنظام السوري على التعامل معه.
ما تزال الساحة السورية تخضع للمنافسة والمتنافسين، وقد يأخذ التنافس جولات كثيرة يمكن القول: إن ملف الكيماوي واحد منها، غير أن نهاية الملف السوري عموماً لن تكون سعيدة، لأن هذا البلد سيكون تحت رحمة الطرف القوي الذي يملي شروطه عليه، ويتعامل معه معاملة القوي للضعيف والحاكم للمحكوم.