محمد جبر الريفي " غرفة ضيقة في زمن الحرب "

محمد جبر الريفي " غرفة ضيقة في زمن الحرب "
حجم الخط

يخبر المساء عن وجوده عبر تلك الشعاعات الخافتة التي ترتسم على جدران البيوت في ذلك الزقاق الضيق المسدود، في آخر ذلك الزقاق يقع بيت الحاج يوسف منزوياً بنوافذه الواطئة التي تكاد تلامس الأرض وكأنه بذلك يخفي نفسه عن تلك البيوت العالية التي تحيطه من كل جانب، يجلس الحاج يوسف في تلك الغرفة الضيقة البائسة على كرسي صغير من القش تتدلى رجلاه المتورمتان على أرض من الإسمنت مغطاة ببساط قديم كالح اللون وبجانبه طاولة صغيرة وبيدين مرتعشتين يتحسس درجها كلما استيقظ.. وفي لحظات المساء يقلب مفتاح المذياع القديم على المحطات المختلفة ويصغي بانتباه للتهديدات التي تبثها إذاعة إسرائيل على لسان قادتها السياسيين والعسكريين.. وفي الليل يغرق في النوم وحيداً لا أمنيات ولا أحلام، لا شيء يجذبه في تلك الحياة سوى سماع نشرات الأخبار خاصة من إذاعة لندن وأيضاً النوم وكعادته يستقبل النهار بنشاط فتقفز أفكار وصور كثيرة في مخيلته، ليتذكر زوجته تفاحة التي رحلت عن الدنيا قبل سنوات، تركت ذلك الزقاق المليء بالدفء والحيوية وجلبة النسوة وصخب الأطفال ومضت إلى نهايتها المحتومة وبذلك لم يعد له زوجة تقوم على خدمته وترعاه في شيخوخته وهذا ما يضايقه كثيراً فقد أصبح سريرها خالياً، ينظر إلى الفراش المصفوف فوق بعضه في ركن من الغرفة فيصيبه الحزن، فيتطلع بين الفينة والأخرى إلى صورة كبيرة معلقة على الجدار فيتذكر الأيام الأولى للزواج، يوم كان له رونق الشباب وحيويته لا سيما عندما يرتدي القمباز ويضع على رأسه الكوفية البيضاء ويمسك بيده عصا الخيزران الرفيعة التي لا يتركها إلا عند النوم.. أما زوجته تفاحة التي غيبها الموت فقد كان لها قوام رشيق وجسد أبيض وناعم كنعومة جلد الغزال.. .

كلما جاء المساء كان أبو عمر يهرع إلى غرفة الحاج يوسف فهو مثله لم تعد له زوجة يعود إليها وتنتظره فقد ماتت زوجته هي الأخرى بعد أن أصابها المرض الخبيث بصورة مفاجئة فصار لها وجه أصفر ممصوص ومشية بطيئة وعينان زاويتان ولم يستطع أن يفعل لها شيئاً، حين اشتد المرض عليها نظر إليها بتأثر، كانت متمددة على الفراش تحدق في الوجوه، تمد يدها إلى صدر حفيدها حازم تمسد شعره الناعم وبعدها انقطع كلامها وماتت، .. في الغرفة يخلد إلى الصمت فيسأله الحاج يوسف قائلاً: ألا تريد أن تتزوج؟ فيجيب بهدوء كمن يخاف أن يسمعه أحد: أنا أرغب في ذلك ولكن أولادي يمانعون ! فيرد الحاج يوسف قائلا وبشيء من المزاح والسخرية هذه المرة: وماذا ستفعل بها وأنت في هذا العمر؟ فيشعر بذلك أبو عمر بالإحباط وربما بالإهانة لأنه يرى في كلام الحاج يوسف شكاً في قدرته غير أن الحديث يتحول فجأة فيقول الحاج يوسف لأبي عمر الذي كان ساهماً وأين صاحبك الأستاذ كمال؟ وكان مألوفاً أن يذهب أبو عمر والأستاذ كمال سوياً بعد صلاة المغرب إلى غرفة الحاج يوسف فيرد عليه أبو عمر: لقد سافر إلى مصر للعلاج وهناك سيزور زوجته الأولى تفيدة المقيمة مع أسرتها في بور سعيد منذ أكثر من عامين هناك تترك تفيدة جسدها المكتنز يغوص في مياه البحر خاصة أنها لم تنجب للأستاذ كمال أطفالا يلعبون في ساحة البيت.. قال الحاج عواد الذي قدم إلى الغرفة في ذلك المساء مع أبي فتحي الذي سافرت زوجته الحاجة صبرية إلى ابنها في الإمارات قال حين جلس بالقرب من أبي عمر إن أبا فتحي لديه ما يقوله لك يا حاج يوسف فاتجه الحاج يوسف ببصره نحو أبي فتحي الذي رفع عينيه وقال بغضب: منذ أن حل الظلام بالأمس وأكياس الطحين والكوبونات تتجه إلى بعض الناس والى بعض البيوت بعينها في الزقاق فسأل الحاج يوسف عندئذٍ قائلاً بحدة: وأنا وأولادي العاطلين عن العمل لماذا لم يدخل على بيتنا كوبونه واحده او كيس واحد من الطحين؟! غير أن الحاج عواد حين رأى أن الحديث سيتحول فجأة إلى السياسة قال مداعباً: هات يا حاج قصة من أيام زمان . في تلك الغرفة الضيقة البائسة حكايات كثيرة لا يمل الحاج يوسف عن تكرارها مرات ومرات.. يغوص الحاج يوسف في مخزون حكاياته القديمة ويحكي عن امرأة يهودية من أصول عربية في يافا كانت تدير محلاً للمشروبات الروحية قرب شارع العجمي وقد أحبته حباً شديداً لما كان يتمتع به من نضارة الشباب وطلبت منه أن يتزوجها شريطة أن يسكن معها في البيت وكان حين يقص هذه الحكاية أمام زوجته المرحومة تفاحة تثير ثائرتها وتشعر بالغضب وتقول بلهجة فيها عتاب بعد أن تهدأ: هل سارة اليهودية كانت أجمل مني يا حاج؟!

تمتلأ غرفة الحاج يوسف بالرجال كبار السن ويتطلع الحاج يوسف حوله وكان له الحق أن يشعر بالمتعة فلم يشعر في تلك الغرفة الضيقة المليئة بالأشياء القديمة إنه وحيد ومعزول، يحس بالسعادة في قدوم هؤلاء الرجال كل مساء حيث الأصوات تعلو في جنبات الغرفة وكأن هناك في البيت جلسة هامة لفريق متجانس من البشر ويأتي علي حفيد الحاج يوسف يمد أكواب الشاي، يرفع عينيه في كل رجل يمد له كوب الشاي فيرى وجوه الرجال تتكرر أمامه يتركهم ويمضي فأمثاله من الصبية لا يجلسون مع هؤلاء الرجال الذين لا أحلام لديهم، لا شيء عندهم سوى الكلام عن كل شيء ثم الاستغراق في النوم.

مساء ذلك اليوم كان حزيناً وكئيباً، حضر العم حامد بكامل ضعفه يتكأ على عكازه الأسود الكبير، كان أول القادمين في ذلك المساء هرباً من كلام زوجته صبحية التي تسأل بشيء من الرعب عن كل شيء.. ربما لأن شقيقها صبحي قد استشهد مع رجال آخرين عند أول قصف جوي في الحرب الأولى على القطاع.. كان الزقاق خالياً على غير عادته من الأطفال، جلس قرب النافذة وأخذ يتحدث للحاج يوسف عن أهوال الحرب، كان القصف قد اشتد طيلة اليوم من الدبابات الإسرائيلية المتمركزة فوق جبل الريس شرق مدينة غزة، مرت دقائق طويلة بعد صلاة المغرب ولم يحضر أحد من الرجال، الزقاق هادئ ومظلم والناس أقعدهم الخوف من الطائرات فما عاد أمامهم سوى الجلوس في البيت قال الحاج يوسف لحامد مانحاً في ذات الوقت أذنه نحو الراديو الصغير الموضوع قربه فوق الطاولة الصغيرة: أين تعتقد يا حامد يسهر الرجال هذه الليلة؟ لماذا لم يأتوا تباعاً مثل كل ليلة إلى هذه الغرفة ليصغوا بانتباه للقصص والحكايات التي أرويها عن الزمن الماضي؟ الحاج يبدو غير مرتاح لكن عينا حامد تتطلعان بوجهه تطلبان منه التريث والانتظار وللحظات لا يعرف بماذا يجب أخيراً يعود الحاج يوسف قائلاً بلهجة فيها عتاب وذلك بعد أن نفذ صبره من مجيئهم: لا بد أنهم يشعرون يا حامد بالخوف في هذه الليلة التي اشتد فيها القصف فكل خطوة يخطونها إلى الزقاق يعتقدون إنها ربما تقودهم إلى الموت.. ومثل هذا الكلام من الحاج يوسف كان من شأنه أن يدخل الخوف في قلب حامد خاصة أن قذائف ذلك اليوم قد أصابت الطفل سامر فانتزعت دماغه من رأسه وحولت أمه الطبيبة الروسية التي كانت بالقرب منه إلى أشلاء ممزقة فوقف عند ذلك متكئاً على عكازه الأسود الطويل وحين سأله الحاج يوسف: إلى أين ستذهب فقال له وهو يشعر بأسنانه وهي تصطك سوف ألحق بزوجتي مطيعة لأنام عند ابني ماهر الذي يسكن قريباً من الساحة وسط البلد حيث أضواء الدكاكين والبيوت تتلألأ دائما والجنود اليهود لن يستطيعوا الوصول بدباباتهم إلى هناك..