هناك حالة جدل وخلاف غير مسبوقين، بين الحكومة الإسرائيلية والقيادة التقليدية لليهود حول العالم، بل وبين الحاخامات والحاخامات. وهناك عنوانان لهذا الخلاف، أولهما قواعد الصلاة لدى حائط البراق، في القدس، والثاني قانون اعتناق اليهودية، وتحديد من هو الحاخام. ولكن ربما كان الخلاف الحقيقي هو على فكر وهوية الحركة الصهيونية وأحلامها القديمة.
من نتائج الخلاف سحب بعض كبار المتبرعين الغربيين اليهود خصوصاً أميركيين، لتبرعاتهم ودعمهم المقدم للإسرائيليين. وعلى سبيل المثال، طلب، اسحق لكي فشر، أحد أشهر المتبرعين والداعمين الأميركيين اليهود، استعادة مبلغ مليون دولار قيمة سندات إسرائيلية اشتراها مؤخراً، وقد اشتهر، فشر بوصفه "يستثمر مرتين أسبوعيّاً في إسرائيل"، وقد أعلن الآن أنّه سيراجع موقفه. وأرسل الملياردير اليهودي الكندي تشارلز برونفمان، رسالة غاضبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
كذلك هناك غضب أو قلق بين اليهود المثقفين والسياسيين والمفكرين والإعلاميين، فمثلا ألغت الوكالة اليهودية العالمية، التي يقودها الكاتب الليبرالي والوزير الإسرائيلي السابق ناتان شرانسكي، ومعه آخرون عشاء احتفالياً كان مقرراً مع نتنياهو. واصطحب شرانسكي معه أفنوعام بار يوسف، رئيس معهد سياسات الشعب اليهودي، ورئيسي المعهد الأميركيين، السياسي الشهير دينيس روس، وستيوارت إزنستات، وقدمو لنتنياهو تقدير الموقف السنوي الخاص بالمعهد، وأهم ما فيه دعوة حكومة نتنياهو للحرص على الوحدة بدل إقصاء يهود المنفى، في إشارة للقلق بخصوص وحدة اليهود عالمياً.
هناك سببان مباشران للخلاف الراهن، أحدهما تمرير نتنياهو الترتيبات التي يصر عليها اليهود الأصوليون (الأرثوذكس) للصلاة لدى حائط البراق، أو ما يسمى بالنسبة لليهود "الحائط الغربي"، في القدس داخل الأسوار، خصوصاً من حيث الفصل بين الرجال والنساء. والثاني، المضي في مشروع قانون يجسد أيضاً رغبات الأصوليين بشأن عملية التهويد، ودخول اليهودية، ومن شأنه أن يمنع الاعتراف بكثير من الأشخاص في العالم كيهود، خصوصاً الآتين من الاتحاد السوفياتي السابق. ويرد الأصوليون بشدة ضد هذه التحفظات، لدرجة "تكفير" الفئات الأخرى.
هناك مقابل الأصوليين ما يعرف باسم اليهود المحافظين، واليهود الإصلاحيين. ويشكل اليهود غير الأصوليين نحو 80 بالمئة من داعمي اللوبي الإسرائيلي (آيباك) في الولايات المتحدة الأميركية، فضلا عن نشوء لوبيات إسرائيلية جديدة، تعلن منذ سنوات اعتراضات على سياسات الحكومة الإسرائيلية، مثل مجموعة "جي ستريت".
في كندا هناك غضب كبير بين الحاخامات هناك، بعد الكشف عن قائمة تتضمن أسماء 160 حاخاما كنديا، يرفض كبير الحاخامات الإسرائيلي الاعتراف بوضعهم، والتشكيك بيهوديتهم، وقد أصدر الكنيس اليهودي الأبرز في مونتريال بيانا يطالب فيه الحاخام الأكبر الإسرائيلي دايفيد لاو، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بالتدخل.
في رد وزير الصحة، من حزب يهودية التوراة الموحدة، ياكوف ليتزمان، كتب مقالاً قال فيه، إن "اليهودية الإصلاحية" تشكل نوعا من الدين، ولكنه دين أجنبي مثل المسيحية والإسلام.
مثل هذا الخلاف يشير للتغير الجوهري في هوية الحركة الصهيونية، ففي بدايات هذا المشروع كانت هناك مسحة اشتراكية رومانسية، جسدتها اتحادات العمال وحركات الكيبوتس اليساري (المزارع الشيوعية)، في محاولة تشكيل عالم جديد لليهود. كما أنّ الرأسماليين الأوروبيين والأميركيين، وأذرعتهم المالية والإعلامية والفكرية، التي أخذت طابعاً ليبرالياً، كانت سنداً أساسياً للإسرائيليين لعقود، (بغض النظر عن عنصرية وتحريفية الاشتراكيين والليبراليين الصهاينة على السواء). والآن هناك نزعة لا تغالي فقط بالشعور بالغرور بعدم الحاجة للعالم وحسب، بل وحتى أنهم يعتبرون يهود العالم ونفوذهم أقل أهمية، ودعمهم غير المشروط حق مكتسب، وبدل الحلم بمستقبل مختلف هناك سعي لاستعادة ماض سحيق.
يفضل نتنياهو منذ بداية حياته السياسية، جمع تكتلات من أحزاب أصولية وأقليات، تشكل مجتمعة أغلبية برلمانية، ولكنّ أيا منها لن يصبح يوماً تياراً شعبيا أساسياً، وبهذا يضمن عدم انقلابهم عليه، ويحرص دائماً على تأكيد أنه أكثر يمينية منه سياسياً، ويجاريهم في القضايا الدينية والحياتية. وبالتالي تقوم سياسته على الاستفادة وتعميق التناقضات بين اليهود أنفسهم، وبين هوياتهم الفرعية.
من المبكر، ومن غير المبرر، توقع أثر مباشر لهذه الخلافات في الشأن الفلسطيني، وعملية السلام، ولكنها لا شك محطات قد يكون لها ما يليها على صعيد هوية ومستقبل المشروع الصهيوني.
عن الغد الأردنية