فتيل القدس

رجب أبو سرية.jpg
حجم الخط

كل من يعمل بالسياسة أو من يتابعها أو يهتم بها، ونظن بأن هذا صار حال ملايين البشر في منطقتنا العربية - الشرق أوسطيه، عليه أن لا ينسى للحظة حساسية القدس فيما يخص الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، والذي هو ليس صراعا على الحدود بين دولتين - مثلاً - لكنه صراع بين دولة احتلال ودولة محتلة أرضها بالكامل، وعليه أن يتذكر كل الوقت الحساسية المضاعفة للمسجد الأقصى ولكل الحوض المقدس.
فقد كانت حساسية قبلة المليار ونصف المليار مسلم الأولى سبباً في اندلاع أول مواجهة دامية بين العرب الفلسطينيين المسلمين واليهود المحتلين الذين صاروا إسرائيليين بعد ذلك، وذلك العام 1929، ثم كانت سبباً في "خنق" أوسلو واندلاع المواجهة الدموية العام 2000، التي طوت صفحة الأمل بالتوصل لحل سياسي تفاوضي، ما زالت الأطراف غير قادرة على تجاوزه حتى اللحظة، ثم كانت سبباً في هبة العام 2014، أو انتفاضة السكاكين والدهس التي قام بها الشباب الفلسطيني الذي سيكون هو الطرف المواجه لإسرائيل خلال العقود القادمة.
والحقيقة التي لا تقبل جدلاً أن كل محاولات إسرائيل لتهويد القدس، أو محاولة تحقيق أحلامها بضمها واقعياً وعملياً على الأرض، مهما تقدمت بحسابات "الورقة والقلم" أو بحسابات رجال الأعمال من السياسيين، لن تجدي نفعا، لأن مربط الفرس هو المسجد الأقصى وقبة الصخرة، أروقة وساحات وزوايا ثالث الحرمين الشريفين الذي تشدّ إليه رحال المسلمين وقت الحج إلى بيت الله الحرام.
أحد لا يمكنه أن ينسى حين قام أرئيل شارون العام 2000 باقتحام باحات المسجد الأقصى، وكان معارضاً سياسياً يسعى لتحقيق هدفه الشخصي بالوصول إلى كرسي الحكم، فكان سبباً في اندلاع الانتفاضة الثانية، وكان ذلك قد حدث في ظل حالة من الإحباط واليأس من التوصل إلى حل سياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أعقاب مرور العام 1999 دون التوصل للحل النهائي حسب اتفاقات أوسلو.
أما هبة الأقصى التي انطلقت في تشرين الأول العام 2014 فقد أعقبت توقف آخر فصل تفاوضي بين الجانبين في نيسان من العام ذاته 2014.
ولا شك في أن حكومات اليمين الإسرائيلية خاصة تلك التي ترأسها بنيامين نتنياهو، قد عودتنا، وهي حكومات تراثها في الحكم وإرثها السياسي وراءها ويدل عليها، بأنها كلما وجدت نفسها إزاء استحقاق سياسي لا تريده، تهرب منه إلى الأمام بتوتير الأوضاع إن كان بتسخين جبهة غزة، أو بمحاولة إشعال فتيل القدس، والذي هو عمليا بمثابة صاعق تفجير، يمكنه بأي وقت وفي أية لحظة أن يحرق الدنيا، بل أن يشعل الشرق الأوسط برمته، لأن حال القدس والأقصى بالتحديد، ليس مثل حال سورية أو ليبيا أو اليمن، وأية مواجهة فيه ليست كما مواجهة أية جماعة متطرفة في أي مكان بالدنيا، ولا حتى كما هي حال المواجهة بين غزة وإسرائيل، فالأمر هنا ليس سياسيا فقط، وليس بين جماعات تنتمي لدين أو لعرق أو لقومية واحدة، تفترق في التوظيف السياسي للدين أو حتى في الاجتهاد أو في الصراع على السلطة، هنا الحال مختلفة تماما، فهو ليس له مثيل إلا الحروب الصليبية التي كانت تهدف إلى احتلال أراضي الغير واستعمارها واستعبادها بحجة الدفاع عن الأرض المقدسة.
وكل الدنيا هنا تعرف أن التاريخ القريب والممتد منذ أربعة عشر قرناً متواصلة، يقول بعروبة وإسلامية ومسيحية القدس وبعروبة وإسلامية الأقصى، وليس هنالك من أدلة أركولوجية تؤكد الوهم الذي يملأ رؤوس المتشددين من اليهود والذين يزيدهم الاحتلال تطرفاً ويحول بعضهم إلى إرهابيين بكل معنى الكلمة، ما يؤكد أن لهم علاقة بهذه المنطقة وبهذا المكان بالتحديد.
في حقيقة الأمر أن اليمين الإسرائيلي، ينسى أن ديفيد بن غوريون أعلن "دولة إسرائيل" دون القدس العام 1948، وهو في الحقيقة يقوم باستغلال وضيع لقناعات بعض المؤمنين من يهود إسرائيل لتحقيق مآرب سياسية، للهرب من التفاوض ومن ضرورة أن يؤدي إلى انسحاب إسرائيلي من أرض دولة فلسطين المحتلة، وقد كان نتنياهو وليس بينيت ولا ليبرمان واضحا قبل أيام بمناسبة انتخابات حزب العمل الداخلية، حين قال إن اليسار الإسرائيلي يهاجمه لأنه يرفض الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لذا فهو يهدد بإشعال الأرض لدرء فصل تفاوضي يلوح في الأفق، أو على الأقل لتحويله إلى مضيعة للوقت كما كانت حال سابقه، وحتى يضمن سلفا أن لا يؤدي إلى إقامة دولة فلسطين، على أرض الضفة الغربية وعاصمتها القدس.
كذلك لابد تكرار من القول، إن إسرائيل ما زالت تصر على كونها دولة مارقة، وهناك ما يوحي بأن إسرائيل تفكر في نزع الرأس عن جسد الدولة الفلسطينية في حالة فرضها عليها، ذلك أن تلك الدولة لن يكون لها معنى دون المسجد الأقصى، ودون إيرادات الحجيج السنوي للأماكن المسيحية والإسلامية المقدسة، وأن محاولة إسرائيل العام 2014 لفرض التقسيم الزماني والمكاني للحرم أدت إلى انتفاضة السكاكين، فيما محاولة فرض البوابات الإلكترونية - اليوم - ستؤدي إلى اندلاع مواجهة تأجلت انطلاقتها كثيرا، ويبدو أن إسرائيل تصر عليها، محاولة أن تعيد التاريخ إلى حقبة دموية قديمة!