لا شك أن لمدينة القدس مكانة خاصة عند كل المسلمين والعرب ولهذا اعتاد الخطاب السياسي الفلسطيني والعربي والإسلامي الحديث عن البعد الديني والبعد القومي للقدس ولمجمل القضية الفلسطينية ،إلا أن الخطاب السياسي والحديث عن هذه الأبعاد لم يكن منسجما أو متوافقا مع الممارسات على أرض الواقع .على العكس من منطوق الخطاب كانت الممارسة توظيفا للقضية الفلسطينية من طرف أنظمة وجماعات إسلاموية وعربية لخدمة سياسات ومصالح هذه الأطراف ،وأحيانا كانت المبالغة في توظيف البعد الإسلامي تؤثر سلبا على البعد الوطني من خلال مراهنة أحزاب فلسطينية على الجماعات والأنظمة التي ترفع رايات الإسلام بدلا من المراهنة على الذات الوطنية .
عقود من الزمن ما بعد حرب اكتوبر 1973 وإسرائيل تواصل احتلالها للقدس ولكل فلسطين وتدنس المقدسات ولم يتصدى للاحتلال الصهيوني فعليا إلا أهل فلسطين ،ولم يدافع عن المسجد الاقصى إلا أهل القدس . ليس هذا انكار للجميل لكل من ساند شعب فلسطين وليس كفرا ورفضا للبعدين القومي والإسلامي للقدس وفلسطين ولكل كشفا لزيف الأيديولوجيات والشعارات ودعوة للتعامل بعقلانية وواقعية مع ما يجري في المسجد الأقصى والقدس .
إن كان من غير المجدي في ظل الظروف العربية والإسلامية الراهنة مطالبة الأنظمة العربية والإسلامية بأكثر مما قدموا حيث مشاكلهم وهمومهم الداخلية لها الأولوية على أي ارتباطات أيديولوجية حتى وإن كانت دينية ، ففي المقابل مطلوب فلسطينيا التوقف عن المراهنة على البعد الديني الذي يقول بأن القدس مقدسة لمليار ونصف المليار مسلم وعلى هؤلاء تقع مسؤولية التصدي للاحتلال الإسرائيلي وتحرير القدس ،والتوقف أيضا عن وهم أن قرارات الشرعية الدولية بما فيها قرارات اليونسكو يمكنها أن تشكل رادعا لإسرائيل وتُعيد السيادة الفلسطينية والعربية على القدس .
المكانة الدينية والتاريخية لمدينة القدس بالنسبة للديانات السماوية الثلاث لا يلغي أنها مدينة فلسطينية وعاصمة الدولة الفلسطينية المنشودة وينطبق عليها ما ينطبق على بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة . أيضا البعد الديني للقدس لا يلغي أو يسقط المسؤولية الوطنية الفلسطينية عن المدينة ،والبعد الديني أو الصفة الدينية للقدس ليس بديلا عن بُعدها الوطني ، فوطنية القدس والمقدسات لها الأولوية على بُعدها الأيديولوجي الديني أو القومي .
وإذ يرحب الفلسطينيون بأي جهود أردنية أو عربية أو دولية لحل مشكلة البوابات الالكترونية التي نصبها جيش الاحتلال على أبواب المسجد الأقصى إلا أنه يجب الحذر من أي حلول بعيدا عن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لأن ذلك سيعزز محاولات فصل القدس عن الضفة وعن الإيالة الفلسطينية عليها وسيعزز إحساسا عند سكان القدس أنهم ليسوا جزءا من الحالة الوطنية ما دامت مشاكلهم تُحل بعيدا عن الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني .وإذا تم حل إشكالات البوابات على مداخل المسجد الأقصى من خلال الاردن ومن خلال مساومات ومقايضات ما بين مشكلة قتل مواطنين أردنيين داخل السفارة الإسرائيلية في عمان ومشكلة البوابات بعيدا عن الطرف الرسمي الفلسطيني فإن ذلك سيفتح المجال لحلول مشابهة لمشاكل قادمة قد لا تقتصر على المسجد الأقصى بل تتوسع لتشمل كل مدينة القدس وقد ينتقل الأمر لبقية مدن الضفة .
مع كامل الاحترام والتقدير للأردن الشقيق على ما يقدم من دعم وإسناد للمقدسيين من خلال الاتفاقيات التي تمنحه حق الإشراف على الأماكن المقدسة ، إلا أن من يدافع عن الأقصى اليوم هم سكان القدس بشبابها وشيوخها ونسائها ،كما أن هذا الإشراف بالإضافة إلى أنه لم يردع إسرائيل عن ممارساتها ضد المسجد الاقصى ومجمل القدس بما في ذلك نصب البوابات الالكترونية ، فإنه يضُعف مع مرور الوقت الروابط الوطنية بين أهالي القدس ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية ، وما يعزز هذه الحالة تضييق إسرائيل على انشطة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير السلطة داخل مدينة القدس سواء على مستوى الدعم المادي و الخدماتي أو الحضور السياسي .
لقد رأينا كيف خرج قطاع غزة من تحت سلطة منظمة التحرير وهو ينحو لأن يتحول لكيان قائم بذاته ،وإذا ما تم نفس الأمر مع المسجد الاقصى والقدس فإن أي حديث عن منظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني أو عن الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس سيصبح نوعا من اللغو ومنفصلا عما يجري على أرض الواقع ،وآنذاك لا يكفي أن نقول بأن الاحتلال الإسرائيلي وحده مسئول عن ذلك .