مأساة عالم رياضيات

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

تدور قصة فيلم "لعبة المحاكاة"، أو (The Imitation game) الحائز على جائزة الأوسكار كأفضل نص مقتبس، حول العالم البريطاني "ألان تورينغ"، الذي استطاع فك شيفرة الاتصالات الألمانية في زمن الحرب العالمية الثانية المسماة "إنيجما"، ما ساهم في تغيير نتيجة الحرب.
الفيلم من بطولة "بينيدكت كامبرباتش"، و"كيرا نايتلي"، سيناريو "جراهام مور"، وإخراج "مورتن تيلدم".
يجمع الفيلم ما بين الدراما والغموض مع بعض اللقطات الكوميدية الخفيفة، وهو مقتبس عن قصة حقيقية، ويتطابق مع الأحداث التاريخية حتى بالأسماء.. اعتبره النقاد فيلماً متكاملاً من جميع الجوانب التي جاءت مبهرة ومكمّلة لبعضها البعض (تصوير، حوار، أداء، إخراج، مونتاج، ديكور...). سيناريو الفيلم مترابط ومتماسك، يتنقل بسلاسة وبتوقيت عبقري بين ثلاثة أزمنة مختلفة؛ فيحكي لنا قصة "تيورنغ" الطفل، الذي يعاديه أقرانه، بل ويعذبونه، لأنه مختلف عنهم، ثم يأتي على زمن الحرب ومحاولاته الدؤوبة لفك شيفرة "الإنيجما"، التي استعصت على السوفيات والأميركيين والفرنسيين.. ثم فترة ما بعد الحرب وملاحقة القضاء له بسبب ميوله الجنسية.. الحوارات مبهرة ومشوقة وتشد انتباه المشاهد، حتى أنه سيتذكرها بعد نهاية الفيلم.
تبدأ القصة باختيار "ألان تيورنغ" عالم الرياضيات لقيادة فريق من العلماء، هدفهم الرئيس إيجاد طريقة لفك شيفرة الرسائل التي تبثها القيادات النازية لقواتها عن طريق آلة رهيبة أطلق عليها اسم "إنيجما"، والتي كانت أقوى وأهم أسلحة "هتلر"، بل المفتاح الرئيس لنجاحه في حربه في السنوات الأولى من الحرب، والتي مكنته من رفع علم النازية فوق 24 عاصمة في غضون سنتين.
يبدو عالم الرياضيات، بشخصيته الغريبة، غير مقنع بالنسبة لقيادات الجيش البريطاني، ومع ذلك يمنحونه فرصة لعمل شيء ما، أو إحداث أي اختراق.. ولكن، مع إخفاقاته المتوالية يضيق صبر رؤسائه المباشرين، فيضيّقون عليه الخناق، ويتعاملون معه بريبة وشك، حتى أنهم يتهمونه بالتجسس، ويهمّون بإغلاق معمله، لكن دعم "تشرشل" له، وكذلك زملائه في العمل ينقذه..
توصل "تيورنغ" لقناعة بأن احتمالية فك شيفرة "الإنيجما" تتطلب 159 مليار مليار محاولة، وهذا الأمر يستغرق 20 مليون سنة من عمل فريق متكامل من العلماء دون توقف.. ما يعني أنه أمام مهمة مستحيلة.. فرفض فكرة إحداث اختراق لهذه الشيفرة المستعصية، وبدأ بتصميم جهاز غريب، أراد له أن يتفوق على جهاز "الإنيجما"، ومن الواضح أنه كان عبقريا بدرجة غير عادية، كان متقدما على جميع علماء مرحلته بسنوات.. تخيل جهازا لم يكن موجودا سابقا، لا بالشكل ولا بالتصميم ولا بالأداء.. أراد أن يجعل الآلة والمسننات تفكر وتحسب بطريقة أسرع من العقل البشري، وبشكل مختلف عنه..
بعد سنتين من المحاولات المستمرة، نجح فريق "تيورنغ" وبطريقة ألمعية في حل اللغز، وتمكنوا من فك الشيفرة، لكنهم أبقوا الأمر سراً (ظل من أسرار الدولة 50 سنة)، خشية أن تدرك القيادة الألمانية أن بريطانيا فكت الشيفرة، فيقومون بتغييرها.. فكانت القيادة البريطانية تعلم مسبقا بموعد ومكان الهجمات النازية.. ومع ذلك، لم تكن تتصرف دائما على النحو المتوقع، فمن باب التمويه كانت تختار بدقة الأهداف التي تريد إنقاذها، أو تلك التي تضحي بها.. وحسب تقدير الخبراء تمكن "تيورنغ" بجهازه الجديد الذي سماه "كريستوفر" من إنقاذ حياة ما يقارب 14 مليون إنسان، وبفضل اختراعه، اختصر سنتين من الحرب، كانتا ستجران خرابا ودمارا هائلين، بل وبفضل هذا الاختراع تمكن الحلفاء من هزيمة النازية وإنهاء الحرب.
أهمية وعبقرية جهاز "تيورنغ" لا تكمن فقط في حسم نتيجة الحرب، وإنقاذ أرواح الملايين.. بل وأيضا، في كون جهازه مثّل الجيل الأول من أجهزة الحاسوب، والذي بفضل فكرته العبقرية أمكن اختراع الكمبيوتر المتطور فيما بعد.
أين المأساة في القصة؟ عالم الرياضيات الفذ، الذي غيّر مسار التاريخ السياسي للعالم بأسره، والذي فتح الطريق لاختراع الكمبيوتر، ووضع الأساسات الأولى للذكاء الاصطناعي.. والذي لولاه لتأخر اختراع الحواسيب عقوداً أخرى.. كان مثليا.. وفي تلك الفترة كانت السلطات البريطانية تتعسف بحق المثليين، وتعتبر المثلية جريمة يعاقب عليها القانون.. وبالرغم من أهمية اختراعه بالنسبة للجيش، إلا أن رؤساءه المباشرين لم يتأخروا لحظة عن الانتقام منه؛ وضع القاضي "تيورنغ" أمام خيارين فقط: إما السجن، أو إجباره على تناول جرعات أدوية كيماوية معينة تعمل على معالجة هرموناته الذكورية، ليعود "طبيعيا"!
بعد فترة وجيزة من تعاطيه الأدوية، بدأت يداه ترتجفان، وأخذت تظهر عليه علامات النحول والضعف، ثم دخل في نوية كآبة، إلى أن مات منتحرا، عن عمر بلغ 41 سنة.. تناول قضمة من تفاحة مغموسة بسم السيانيد، أنهت حياته فورا.. ويقال إن شركة "أبل" للكمبيوتر صممت شعارها تخليداً لذكرى مؤسس علم الحاسوب الحديث، مع العلم أن الشركة تنكر ذلك.
لا أحد يعلم ماذا كان يمكن لهذا العالِم العبقري أن يخترع لو قُدِّر له أن يعيش 20 أو 30 سنة أخرى؟
ولا أحد بوسعه تقدير حجم الخسائر التي تكبدها العالم من جراء انتحار "سقراط"، أو "جورج إيستمان" مخترع الفيلم السينمائي ومؤسس شركة كوداك، أو "والاس كاروثرز"، مخترع النايلون ومكتشف المطاط الصناعي.. أو من حبس "غاليلو"، أو من قتل الفيلسوفة السكندرية "هيباتايا"، أو "ابن المقفع"، أو تقدير خسائر العلم من حرق كتب "ابن رشد"، وحرق مكتبة بغداد والإسكندرية.. كل هؤلاء (وغيرهم كثيرون) انتحروا، أو أُجبروا على الانتحار، أو قُتلوا، أو سُجنوا.. لأن المجتمع لم يفهمهم، ولأن السلطات حاربتهم.
والمأساة أن العالم ما زال يرتكب نفس الحماقة..