عندما تصبح الحياة ملاقط

د.عاطف أبو سيف.jpg
حجم الخط

جدول الكهرباء في غزة مربك مثل كثير من الأشياء التي باتت هي النسق العام لتنظيم حياة الناس. الجدول الذي تقلص إلى قرابة أربع ساعات بعد أن كان قبل ذلك يصل إلى ثماني ساعات. بالطبع فإن أطفالي الخمسة لا يكاد أحدهم يعرف ما معني أن تأتي الكهرباء طوال الوقت، أو بالأحرى لا يعرف كيف يمكن للكهرباء ألا تقطع. وبما أن أغلبية سكان القطاع هم من الشباب، والأغلبية من هؤلاء دون سن 18 فإنه لو قدر، افتراضاً، للكهرباء أن تأتي 24 ساعة دون أي انقطاع، فإن هؤلاء ربما أصيبوا بالصدمة النفسية والاغتراب، حيث إنهم سيشعرون أن الوضع غير طبيعي وقتها. وعليه فإن النعمة التي كانوا محرومين منها سيصبح وجودها نقمة عليهم.
لاحظوا كيف بتنا نطالب بالعودة إلى جدول الساعات الثماني. لم يعد السؤال عن الكهرباء المتواصلة يقلقنا، كما لم يعد مطلباً نسعى خلفه. يكفي أن نحصل على ما كنا نحصل عليه، لا نريد المزيد، أو لا نريد ما كان لنا. وبكلمة أخرى، فإننا لا نريد المزيد من الخسارات، من الجيد أن نحافظ على خسارتنا كما هي، لا نريد رد الخسارة أو منعها، فقط لا نريد المزيد منها، لا بأس لو ظلت على ما هي عليه، ولم تتدهور إلى أسوأ من ذلك. ثماني ساعات بالطبع أفضل من ست، وست أفضل من أربع. وبالتأكيد لا بد من أنكم تهمسون: إن أربع أفضل من ساعتين لأن أحداً لا يعرف مآلات الأمور، والقاع السحيق الذي يمكن أن تتدهور وتصل إليه حالتنا. ألم تكن جداتنا يقلن: إن اليوم أفضل من الغد وإن أمس أفضل من اليوم؟! أليس هذا جوهر العبارة الفلسطينية الدراجة "سقا الله على أيام زمان"، التي تكاد تكون لسان حال الفلسطينيين وهم يتأملون واقعهم المرير.
وعليه فإننا بعد هذا الزمن المر، وبعد التكيف مع واقع الكهرباء التي كانت تزورنا كل ثماني ساعات بتنا أكثر تمسكاً بها، وقانعين بأن ما نحصل عليه نعمة من المولي لا نطالب إلا بأن تدوم، فالعيش على قد الحال أفضل من العيش أقل من الحال. وعليه فإن سقف أحلامنا وتطلعاتنا انخفض. في الحقيقة هو لم ينخفض، إذ إن الانخفاض بات مستواه الأعلى، وبات سقف الطموح أن نحافظ على القليل الذي بحوزتنا. ألا نخسر المزيد، ألا نصل إلى طريق أكثر انسداداً. لا بأس من السير في أدغال بلا دروب، ولا بأس بأن نتيه، ولا بأس بأن نفقد صلتنا بالواقع، ولا بأس، وهذا أهم من كل السابق، أن نتمكن من البقاء كما نحن، حتى ونحن تائهون وضائعون. ضياع عن ضياع يفرق كما أن خيمة عن خيمة تفرق، كما أن فقراً عن فقر يفرق وهزيمة عن أخرى تفرق. ألا يشبه هذا حال الوضع الفلسطيني بشكل كامل؟ أليست الكهرباء وجدولها المقدس الذي نطالب بالحفاظ عليه، ومستعدون للخروج غاضبين مطالبين بثماني ساعات، انعكاساً للوضع الفلسطيني؟
هل يختلف هذا بأي حال عن الواقع الفلسطيني وعن سياستنا الغراء؟ ألم يصبح الحفاظ على الوضع الراهن هو جوهر ما يجري من محاولات تكييف مع الواقع؟ كما إن التدخلات الخارجية وخاصة تلك الوافدة من إمبراطوريات النفط تسعى لتخليد الوضع الفلسطيني على تعاسته. وكما كانت تقول أمي: "اللي إيده بالمية مش زي اللي إيده بالنار". والانقسام الذي يشكل ضربة قاصمة للمشروع التحرري الفلسطيني بات الحفاظ عليه مثل حفاظ قريش على آلهتها. لكن لم تعد قريش وحدها بل بات العالم أجمع يساهم في الحفاظ على الآلهة الوهمية.
حتى على مستوى الحياة اليومية، فإن جل ما نسعى إليه هو التكيف مع الواقع، نعيد صياغة تفاصيلنا حتى تتواءم مع الجدول الجديد. حياتنا باتت ملاقط وبطاريات وشواحن. فأنت لا بد من أن يكون لديك بطارية للتلفاز حتى تتمكن من مشاهدة المسلسلات (لا نريد أخباراً) وبطارية لراوتر الإنترنت، وبطارية من أجل "اللدات" لإنارة البيت، وبطارية للمروحة التي ستحملها معك من غرفة لأخرى حتى تحمي نفسك من بطش شهور الصيف ورطوبتها القاتلة. ولكن البطاريات لا تعمل دون لواقط. لواقط لشحن البطاريات – وفق أحجامها- ولاقط لشحن الجوالات ولاقط لشحن المروحة وآخر لشحن التلفاز. كل شيء له لاقطه الخاص. وعليك أن تحفظ كل واحد منهم، وتراعي ألوانها وأحجامها حتى لا تفشل في وضع واحد مكان الآخر فتجازف في حرق البطارية أو الأداة الكهربائية التي تعمل على تشغيلها. عموماً مع الوقت عليك أن تصبح خبيراً في أشياء كثيرة. خبرة لا بد منها، لا يمكن لك أن تواصل الحياة من دونها. كما أن هذه الخبرة بدورها، وبالقدر الذي تخفف من وطأة الحياة، تخلق أعباءً جديدة ومسؤوليات أخرى. عمليات التكيف مع الواقع ومحالة شدشدة الحياة تشبه ربط أدوات الكهرباء باللواقط التي عليك أن تصونها وتحافظ عليها.
حين تصبح الحياة ملاقط، لا تصبح الحياة محتملة فقط بل تجعل منها أمراً ممتعاً. هكذا يتم نسج العالم المتخيل والعالم المرغوب مقابل العالم الحقيقي الذي يمثل نقيضاً لكل ما تسعى إليه. ولكن حتى حين تصحب الحياة ملاقط، فإن الممكن يصبح أكبر من المحقق. وفي ذلك لا يشبه هذا حياتنا السياسية التي يتنافس الممكن والمحقق فيها في الانزلاق نحو القاع. وحين تكون الحياة ملاقط، بجانب أنها أشياء أخرى، فإنها تكون الحياة المحققة ليست إلا. إنها الحياة التي لا نريد، لكنها الموجودة. وعليه فإننا تربة خصبة لتعلم المزيد من أساليب التكيف والتأقلم، ونحن قادرون على السباحة مع التيار، وعلى القفز من المركب وعلى الانثناء عند العاصفة، مثل سنابل جافة، وقادرون على أن نفقد أنفسنا لأننا نعتقد أننا نحافظ عليها بذلك.