حسن عبد الله " الصوفي والقصر"

 حسن عبد الله " الصوفي والقصر"
حجم الخط

أزعم أنني من المتابعين لكل ما يصدره الكاتب والروائي، د.أحمد رفيق عوض، فقد قرأت رواياته جميعها، وقرأت أيضاً ما أنتج من بحوث ودراسات، وأجد نفسي دائماً أمام أفكار وتقنيات جديدة في إصداراته، يغيّر ويطوّر في أساليبه وتناوله لموضوعاته وتنوع أبطاله، إضافة إلى أنه في كثير من نتاجاته يعرضنا للصدمة، فالدكتور عوض يصدمنا ويدهشنا، ويقدم لنا المعلومة في سياق نقبله، لا يفرض أراءه وتوجهاته على القارئ، بل يعرضها، لتقبل أو ترفض، فإذا قبلت فقد أصاب الهدف وإذا رفضت يحقق هدفه أيضاً. كيف يستقيم الأمر؟ قبول الفكرة يعني أنك تفاعلت ووافقت أفكاره، وعدم قبولها، مرد ذلك لقراءة وتمعن واستنتاج، وفي ذلك أيضاً تفاعل. 

مشكلتنا في العالم العربي، اننا نريد من الآخرين التشابه والتماثل مع أفكارنا، فإذا تشابهوا وتماثلوا نصفق لهم، على اعتبار أنهم يفهمون ويستوعبون، وإذا حدث العكس، نُسارع لوصفهم بالمختلفين غير القادرين على الارتقاء إلى مستوى ما نطرح، وكأن ما نطرحه ونقدمه يحلق في المطلق.

 

وهذه الإشكالية تقودنا إلى التنافر وعدم التسامح ورفض الآخر، فالتسامح ليس أن تعترف بالآخر أفكاراً واختلافاً، وإنما إلى جانب ذلك يفترض أن تدافع عن حق المختلف معك بأن يكون مختلفاً. وفي رأيي إن الحروب الأهلية المستعرة على بعض الساحات العربية، سببها الرئيس هو أننا نرى في الآخر المختلف عدواً وضداً يجب مسحه وسحقه لأنه الآفة والوباء والمرض والتهديد.

 

الجميل فيما يقدمه د.عوض روائياً أو بحثياً، أنه يقول لنا هذا ما لدي، لقد اجتهدت وبحثت لأعرض عليكم خلاصتي "اقبلوا أو ارفضوا فمن حقكم ذلك".

 

في برنامج (عاشق من فلسطين)، حيث استضفت د.عوض في الحلقة الأولى، تأكد لي، أن هذا الأكاديمي والمبدع، ما انفك يحرث في أرضه، وينتج فيها قمحاً وزهراً وزيتونا، أي أن نتاجه منوع، فهو روائي وأكاديمي وباحث وإعلامي ومحلل سياسي، بمعنى أن شخصيته متعددة الأبعاد، وأن هذه الأبعاد غير مفصولة عن بعضها بعضاً بأسوار وحواجز وسلاسل من ممنوعات، فهي متداخلة، متفاعلة، يتغذى البعد الواحد من الأبعاد الأخرى في علاقة جدلية تكاملية، الأمر الذي أبرزته في تقديمي له في البرنامج.

 

ولو سألني أحد هل أنت من أنصار التخصص في ميدان واحد دون الخوض في ميادين أخرى؟

 

لقلت له "كلا".

 

فأنا مأخوذ بالشخصية المتعددة الأبعاد، ففي ذلك تنوع وخصوبة وسعة أفق وخبرات.

 

في إصدار د.عوض الأخير "الصوفي والقصر) ينطبق كل ما أوردته في هذا التقديم، وبذلك يتضح لماذا جاءَ طويلاً نسبياً، فهو يقدم رؤيته في رواية مثيرة في أسلوبها ومضمونها ومعالجتها.

 

كيف كان ذلك؟

 

للإجابة عن السؤال المطروح ألخص ما تسنى لي استنتاجه في الآتي:-

 

1- في الأسلوب تطوير لافت عن أية تجربة روائية سابقة له، د.عوض لا يكرر تجاربه، بل يبني عليها، فالجملة رشيقة، مكثفة دالة، عميقة، كل كلمة اصطفت في مكانها وسياقها، وهذا يميز المبدع المحترف، الذي سلخ من عمره سنوات في القراءة والمحاولة والتجريب والصقل واجتراح الجملة الروائية من العقل والوجدان ووجع البحث عن الأفضل وحلاوة السعي للتفوق.

 

2- لا يشعرك د.عوض أنه يطارد الفكرة، أو أنه يجهد نفسه من أجل تثبيتها في النص سرداً أو على ألسنة الأبطال، وإنما تأتي الفكرة رقراقة، طبيعية، غير مفتعلة، ولا يعلّق فكرته في السقف ويطلب منا أن ننظر إليها، ونبحلق فيها، لكي نفهمها ونستوعبها، فالفكرة تُبنّى على الفكرة، والفكرة تؤسس لفكرة أخرى في إطار بناء معرفي، متشعب، خصيب.

 

3- في ظني أن د.عوض واجه سؤالاً صعباً وهو يحضر لروايته، ماذا سأضيف للقارئ من معلومات وقد كُتب حول الصوفية عديد الدراسات والبحوث ومحاولات التعمق في مبادئها وأفكارها وعاداتها وطقوسها وأساليب حياة أتباعها وكيف يتعاملون مع السياسة والاقتصاد والدولة والعلوم والفن وشؤون الحياة الأخرى؟

 

4- لذلك قرأ طويلاً، بحث وتعمق، وقارن بين أطياف صوفية واتجاهات في المشرق والمغرب، ورجع بطول نفس إلى الأصول، ووضع الإصبع على الاختلافات، غاص في التشابه وأظهر المختلف، توطئة لتقديم ما هو جديد غير مكرر، مبتعداً عن النمطي، الأُحادي، السطحي، المعروض في بدهيات هي في الأصل ليست بدهيات.

 

5- أربعة أبعاد استخدمها د.عوض في بحثه، أولاً الأكاديمي الممنهج، المنضبط، الذي لا يقبل العادي والمألوف. ثانياً روح الباحث المتقصي، الصبور، الممحّص، المُختبر، الذي يضع الأمور في موقع الفرضيات، التي تحتاج دوماً إلى إثبات.

 

ثالثاً – الروائي المسكون بروح التجريب والتجديد، ودهم أبواب الموضوعات الصعبة والمثيرة والإشكالية.

 

رابعاً – الإعلامي المتعطش للمعرفة بنهم الفضول، وفضول لا تشبع غريزته "الوجبات السريعة" وإنما يتطلع لما هو قادر حقاً على تقديم " وجبات" معرفية تستحق أن نشمّر لها عن سواعدنا ونشمر عن عقولنا أيضاً.

 

6- الصوفية كما تقول لنا الرواية، ليست "دروشة" وليست "زوايا" مغلقة، وإن حصرناها في ذلك نقع في النمطي والممجوج. الصوفية مدارس واجتهادات وأساليب تأمل وفضاء مفتوح للعمل والإنتاج، والغوص في وحل السياسة والاقتصاد، لا سيما وأن بعض الاتجاهات، عرفت متى تزهد، ومتى تعتكف، ومتى تخرج إلى الميدان، تختلف مع حاكم وتجير البيت المقدس وتستميت من أجل نصرته.

 

7- الصوفية كما تخبرنا رواية الوراية، لم تكن على هامش التاريخ أو على أطراف الفكر، ولم تسقطها قوة ما على الواقع العربي والإسلامي اسقاطاً فجاً، فهي نبتُّ ببيئتها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تؤثر وتتأثر، تنبجس وتنحبس، تتمدد وتتراجع، تحاجج، تناظر، تتأزم تارة، وتكسر عن نفسها طوق العزلة، في حال التقاء ظروف ذاتية وموضوعية مواتية.

 

8- أبطال الرواية من دم ولحم وأعصاب وحتى الشخصيات الرئيسة تكبو وتنهض، يتسلل إلى نفوسها القنوط، ثم تشحذ هممها من جديد، في عملية صعود وهبوط للإنسان، تعثر يتبعه وقوف على قدمين واثقتين.

 

9- لا بأس إن اتفق هذا القارئ أو ذاك مع ما قدمه الكاتب في روايته، ولا بأس إن انهى قارئ الصفحة الأخيرة منها، قائلاً إنني لم اقتنع، فقد قرأت في مرجع آخر ما هو مختلف. لكن الاسئلة التي يهمني طرحها هنا :-

 

- هل تثير الرواية جدلاً؟

 

- هل تحرك مياهاً فكرية راكدة؟

 

- وهل تحاجج المكرر النمطي؟

 

- وهل تدفعنا للاستزادة عن الصوفية بتنشيط عقولنا وتفعيل أدوات بحثنا.

 

عن كل هذه الأسئلة، أجيب بـ (نعم) قاطعة، وأظن أن هذا يكفي للاستنتاج أن الرواية تشكل إضافة نوعية لا كمية أسلوباً ومضموناً.

 

ختمّ د.عوض روايته بنهاية غير تقليدية، نهاية مفتوحة، ربما تكون فلسفية، أو دينية بجوهر فلسفي، أو فلسفي مشرّع الأبواب على المعرفي والتأملي، حيث ورد على لسان البطل عندما سأل الشيخ العز الشيخ أحمد ( بطل الرواية السيد البدوي) :- أراك أصبحت تخرج من معزلك بسهولة؟

 

فرد عليه: "المعتزل في القلب ولا يخرج منه، ولكن لا بد من حماية القلب أيضاً "، والمعزل هنا رمز للزهد والتأمل، لكن استقامة الزهد، تحتاج إلى سواعد وقوة إرادة لتدافع وتحمي في الميدان.

 

ويقول الشيخ أحمد في الجملة الختامية للرواية "الله يبتلي عباده بالهزائم ليتواضعوا، ويبتليهم بالنصر ليتعلموا)، فلا انكسار على المستوى النفسي والمعنوي حتى في مأساة الهزيمة، ما دامت الإرادة موجودة، فالهزيمة تضعك أمام مرآة ذاتك، لتتفخص نواقصك وتعالجها لعلك تنهض من جديد، أما حينما تنتصر عليك أن تتعلم كيف تحافظ على ما أنجزت وحققت، دون أن يتملكك الشعور بتحقيق كل شيء، وإذا أغفلت ذلك، ربما تخسر كل شيء!! في معركة قادمة، أخفقت في التحضير لها كما ينبغي.