أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإثنين الفائت، ما وصفه بأنّه "استراتيجيتنا الجديدة"، بشأن أفغانستان وجنوب آسيا، وأسماها بمبدأ "الواقعية المسؤولة"، وقد حاول فعلا توضيحها، ولكن ما يقلق المراقبين أنّه لم يحدد آليات لما يريد.
كانت أفغانستان أثناء الحرب تجسيدا لسياسة أميركية واضحة، بخطط تنفيذية محددة، هي سياسة الاحتواء التي تطورت عقب الحرب العالمية الثانية، وتقوم على عدم الدخول في مواجهة مفتوحة مع الاتحاد السوفياتي، والرهان على التآكل الداخلي في دول يحكمها الشيوعيون، مع منع توسع هذه الدول، خصوصاً عسكرياً، واستخدمت أدوات الحرب بالوكالة بشكل خاص لمواجهة أي توسع سوفييتي. وتجسّد هذا في أفغانستان نهاية السبعينيات، ففي وقت كان الأميركيون يجرّون السوفييت لحرب تسلّح، تؤدي لاستنزاف اقتصادي داخلي يؤدي للمزيد من السخط الشعبي على الأوضاع المعيشية، تم تمويل المجاهدين الأفغان وتسهيل حضور المجاهدين العرب لباكستان وأفغانستان، "لمواجهة الشيوعية".
عندما حدثت اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، دُمجت أفغانستان والعراق، في سياسة المحافظين الجدد، التي تسمى سياسة بناء الأمم (nation building)، حيث يعاد تشكيل المجتمعات لتتبنى ثقافة وقيما ومبادئ جديدة. وهذا ما أعلنه الرئيس جورج بوش العام 2002 حول أهداف حرب أفغانستان. ولكن سرعان ما تراجعت هذه السياسة مع فشلها.
كان باراك أوباما (2009 - 2017) صاحب فكرة الخروج من أفغانستان ولكنه حاول في البداية تسوية الأمور، ووصل الأمر لوجود 100 ألف جندي أميركي العام 2011. ولكن كل شيء فشل، فلم يجر بناء شعب جديد، ولا دولة ومؤسسات فاعلة، فالفساد والخلافات بين حلفاء واشنطن، كما الانقسام الإثني والعرقي والقبلي لم تؤد إلا لمزيد من الصراع هناك ورفض الأميركيين.
بعد سقوط استراتيجية بناء الشعوب زمن بوش أصبح هناك شبه اتفاق على الأهداف الأميركية في أفغانستان، وحددها ترامب في خطابه، بأنّها؛ ألا تتحول أفغانستان وجوارها ملاذاً للجماعات التي تريد مهاجمة الولايات المتحدة الأميركية، والثاني عدم وقوع الأسلحة النووية الباكستانية بيد هذه الجماعات. وعملياً لولا هذه المخاوف لترك الأميركيون وخصوصاً ترامب أفغانستان لتطحن نفسها بالحرب، ووفروا الإمكانيات المنفقة هناك.
كان ترامب حريصاً جداً على القول في خطابه إنّ "لعبة بناء الأمم" انتهت، ولا يريد أن يحدد للأفغانيين كيف يعيشون، أو كيف يحكمون أنفسهم. وهذه هي النظرية الواقعية التي لا تولي اهتماما بنوع النظام السياسي في الدول الأخرى. بل ذهب ترامب حد القول إنّه قد تنشأ ظروف في المستقبل للقبول بحركة طالبان، كجزء من المعادلة. ولكن في الوقت ذاته قال إنه سيستمر في دعم إنشاء حكومة فاعلة هناك، ومشترطا دورا أكبر لباكستان في محاربة الإرهابيين داخلها، وبالتالي الاستمرار بتقديم المساعدات للأفغان لمواجهة "العدو المشترك"، وهذا ما يجعله يسميها "الواقعية المسؤولة" التي تدرك أهمية ما يحدث في الدول الأخرى على أمن الولايات المتحدة.
هذه الأفكار تتضمن بلورة لتصورات ترامب لفلسفته في السياسة الخارجية، ولكنها لا تتضمن خططا تنفيذية، وهو يقول إنّه لن يحدد جدولا زمنيا أو خططا متى سيتحرك، بل سيفاجئ الأعداء بحركته، وسيترك تحديد الزمن لتغير الشروط على الأرض.
من شبه الثابت في السياسة الأميركية ومنذ نحو العام 2006، أي في آخر عامين لإدارة جورج بوش، أنّ فكرة هندسة الشعوب لن تنجح، وأنه يكفي العمل على تقوية الدول لتحكم أرضها ولا يكون هناك فراغ يؤدي لانتشار الجماعات الإرهابية. وكانت المخاوف أن ترامب يريد أن ينسحب للداخل كما قال في حملته الانتخابية، وأن ينفذ وعوده ترك أفغانستان. والآن يتراجع ويقول إنه لن يفعل بل سيزيد قواته هناك، ولكنه لن يعود لسياسات بناء الأمم. ويترك الكثير للتخمين ماذا سيفعل؟ وتذكيره بالانجازات العسكرية ضد داعش في العراق، مع الإشارة ليوم قد تكون طالبان فيه جزءا من المعادلة في أفغانستان، كأنه يقول سنحقق انتصارات عسكرية تفرض مفاوضات أو ترتيبات جديدة.
لو حقق ترامب هدف الحكومة القوية في أفغانستان مع حرية الأفغان في تحديد مسار حياتهم، دون أن يشنوا هجمات على الأميركيين، سيكون هذا انتصارا كبيرا له، ولكن السؤال الذي سأله خبراء السياسة الأميركيون، كما يستدل من قراءة آرائهم، هو "متى وكيف سيفعل ترامب ذلك؟".
عن الغد الأردنية