سجلت لقاءات القاهرة الفلسطينية – الفلسطينية، والفلسطينية المصرية تطوراً ملحوظاً، بل وخطوة نوعية ملفتة للانتباه، وذلك على قاعدة ما بات يعرف باسم تفاهمات القاهرة، التي جرى التوصل اليها يوم الأحد 11 حزيران 2017، حيث حدثت هذه التطورات في ظل تلك التفاهمات واستتباعاً لها. ويمكن ملاحظة كل ذلك، ليس فقط على ضوء النتائج التي انبثقت عن تلك التفاهمات، وانما ايضاً على ضوء الإستخلاصات التي تم التوصل إليها، سواء من حيث الشكل او الوضوح او من حيث التوجهات، لا سيما وانها جرت بهدوء متعمد، وبلا ضجيج مفتعل .
بداية لا بد من التسجيل أولاً أن لقاء شهر آب (11 و 12 و 13 منه)، تم بدعوة مصرية مباشرة، وجرت اللقاءات بين الأطراف الفلسطينية بحضور مصري مباشر، وليس كما حصل في جولة حزيران السابقة، حينما أيد الجانب المصري تفاهمات حماس مع التيار الفتحاوي الذي يقوده النائب محمد دحلان، ولكن بدون مشاركة مصرية مباشرة في الاجتماعات الثنائية بين الفصيلين، وقد عبر القادة المصريون عن رضاهم وتأييدهم لتلك التفاهمات واستعدادهم لتنفيذ ما هو مطلوب منهم لإنجاحها، رغم عدم صلتهم بها؛ لأنها اقتصرت على الطرفين الفلسطينيين بدون حضور مصري، وإن كانت على أرضهم وبمعرفتهم، بينما جرت لقاءات شهر آب بدعوة مصرية وبرعاية مباشرة من القاهرة .
وثانياً تمت الدعوة من جانب مصر للأطراف الفلسطينية التي اجتمعت في غزة، وشاركت في اجتماعات لجنة التكافل، وهي : حماس والشعبية والديمقراطية والجهاد وتيار فتح الإصلاحي، وقد استجابت هذه الأطراف لدعوة القاهرة، باستثناء الجبهة الشعبية التي أعلنت موافقتها المسبقة عن أي نتائج يمكن التوصل إليها، ولكنها تخلفت عن الحضور إلى العاصمة المصرية، وعدم المشاركة في اجتماعاتها .
ثالثاً لم تقتصر النقاشات ومضامين الحوار على قضيتي التكافل والمصالحة المجتمعية وكيفية تنفيذهما، بل تعدى ذلك إلى القضايا السياسية التي تهم الوضع الفلسطيني وكيفية إخراجه من مأزق الركود والضعف والانقسام، ونحو استعادة حيويته ومبادراته، والعمل على إخراج قطاع غزة وأهله من حالة الفقر والحصار والسلطة المنفردة، وتوسيع قاعدة الشراكة وتنشيط التعددية، السياسية والنقابية والسلطات المحلية، بما فيها إجراء الانتخابات الطلابية والنقابية وتشكيل لجان بلدية مؤقتة، بديلاً للانتخابات البلدية المفترض أن تتم برعاية لجنة الانتخابات المركزية التي يرأسها الدكتور حنا ناصر من رام الله .
كما جرى الاتفاق على كيفية استثمار التبرع الإماراتي بواقع 15 مليون دولار شهرياً، ووضع الصيغ المناسبة والبرامج الواقعية، والمخططات العملية للمشاريع الحيوية والأكثر أهمية، وإعطائها الأولوية في التنفيذ، للتخفيف من معاناة أهل القطاع، وهي حصيلة ضرورية لشعب دفع ثمن رحيل الاحتلال عنه بمعسكراته ومستوطناته، ولكن رغم رحيل الاحتلال ومؤسساته العسكرية والأمنية والاستيطانية مازال شعب غزة رازحاً تحت ثقل ثلاثة عوامل كل منها أسوأ من الأخر:
الأول : الحصار المزدوج المفروض على القطاع من قبل العدو الإسرائيلي براً وجواً وبحراً، ومن قبل الجانب المصري لأسباب ودوافع أمنية بحتة.
ثانياً : تسلط حماس وتفردها في إدارة القطاع منذ عشر سنوات .
ثالثاً : الفقر وتدني الخدمات وانهيار الوضع المعيشي والاقتصادي الذي أعاد جزءاً كبيرا من الشعب الفلسطيني إلى حالة انتظار الإغاثة كما سبق وعاشها بعد عام 1948، وربما أسوأ من سنوات ما بعد النكبة، وهذا يعود بوضوح إلى حالة القطاع التي وصفها تقرير للأمم المتحدة أنها غير صالحة للحياة البشرية .
البرنامج المصري الإماراتي الفلسطيني قد يشكل رافعة ومظلة تخفف من الوجع لمعاناة أهل غزة، ولكنها غير كافية إن لم تكن مصحوبة بمعالجات وطنية فلسطينية مباشرة تُنهي حالة التفرد والتخلف والتبعية السائدة .
فحركة حماس التي نالت مكانتها بفعل عملياتها الكفاحية ضد الاحتلال وتضحيات قياداتها وكوادرها، وبفعل ذلك جرى انحياز أغلبية الفلسطينيين لبرنامجها ولمرشحيها في الانتخابات التشريعية عام 2006، مكنها ذلك من تولي إدارة المجلس التشريعي وتشكيل الحكومة، ولكنها لم تكتف بإدارة المؤسستين فقامت بانقلابها الذي أطلقت عليه « الحسم العسكري « في حزيران 2007، واستولت من خلاله على السلطة منفردة منذ ذلك الوقت، ففقدت دورها الكفاحي في جعل الاحتلال مكلفاً، مثلما أخفقت في تقديم نموذج إيجابي في إدارة قطاع غزة، حيث لا انتخابات للبلديات وللنقابات ولمجالس طلبة الجامعات، على عكس الضفة الفلسطينية التي تجري في مؤسساتها الانتخابات وتفوز حماس بها أسوة مع حركة فتح وباقي الفصائل .
المطلوب فلسطينياً وضع برنامج تفصيلي متفق عليه لإرساء الشراكة في إدارة القطاع بدون لف أو دوران، ويقوم بداية على إجراء الانتخابات : 1- البلدية، 2- مجالس طلبة الجامعات، 3- النقابات بشكل نزيه وديمقراطي والإقرار بالتعددية، واحترام نتائج إفرازات صناديق الاقتراع .
والمطلوب مصرياً دعوة الفصائل الثلاثة عشر لاجتماع في القاهرة كي تكون المصالحة عملية وبمشاركة الجميع لإنهاء تفرد حركة حماس بإدارة قطاع غزة، وإنهاء تفرد حركة فتح بإدارة منظمة التحرير وسلطتها في رام الله .
القاهرة هدفت من وراء هذا اللقاء تقييم ما تم الاتفاق عليه قبل شهرين في حزيران، بين فتح – تيار دحلان وحركة حماس، واستعرضت الخطوات التي تمت على أرض الواقع في غزة، ودراسة الخطوات المقبلة ووضع برنامج خطوات مقبلة، بعد أن تم توسيع شكل التفاهمات وانتقالها من الموقع الثنائي إلى الحاضنة الجماعية، وهي إن لم تتحقق فعلياً، ولكنها اتسعت نسبياً بمشاركة تنظيمي الجهاد والديمقراطية، الأمر الذي يتطلب العمل جدياً من أجل توسيع قاعدة الشراكة لتشمل الجميع بدون استثناء أحد، وفي طليعتهم فريق الرئيس محمود عباس .
خطوتان جديدتان
هدية مسمومة تلقتها حركة حماس من داعش بالتفجير الانتحاري الذي استهدف موقعها الأمني يوم الخميس 17/8/2017، على الحدود الفلسطينية المصرية، حينما فجر أحد الأشخاص نفسه، وأدى إلى مقتل أحد عناصر حماس وإصابة أربعة أخرين، وقد أعلنت كتائب القسام في بيان لها أنها « تزف القائد الميداني في قوة حماة الثغور نضال الجعفري الذي ارتقى، إثر تفجير عناصر الفكر المنحرف نفسه بالقوة الأمنية « .
ولا شك أن هذه العملية تمت ضد حماس على خلفية التفاهمات الأمنية التي تم التوصل إليها بين قائد حماس يحيى السنوار والقيادة المصرية، بهدف منع أي تسلل بالاتجاهين بين مصر وفلسطين – قطاع غزة، مما يحول ويمنع تنفيذ تسهيلات لتنظيمي القاعدة وداعش ضد الجيش والأمن المصري في سيناء من وإلى قطاع غزة .
ومع ذلك وفرت هذه العملية لحركة حماس دلالة أكيدة على أنها تقف في الخندق المتصادم مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة المعادية لمصر، مما يؤكد انتقال حركة حماس عملياً كي تكون في الخندق الداعم للأمن المصري، مثلما توفر لها غطاء ودوافع الانقضاض على الخلايا الداعشية والقاعدية الكامنة في قطاع غزة، ويجعلها سياسياً في الموقع المتحرر من الإرهاب والمتصادمة معه، وهي رسالة كانت تتوسل حماس لتأكيدها، فجاءت هذه العملية الداعشية لتقدم خدمة ملموسة لموقف حماس وتطلعاتها في العمل على إخراجها من قائمة التنظيمات الإرهابية .
اللقاء الثلاثي
كما جاء الاجتماع الثاني التشاوري لوزراء خارجية مصر والأردن وفلسطين يوم السبت 19/8/2017، ليعيد التأكيد مجدداً على أن « إتمام المصالحة الفلسطينية أمر حتمي وواجب لإعادة اللحمة الوطنية الفلسطينية، بحيث تتركز الجهود الوطنية الفلسطينية على تحقيق الاستقلال ومواجهة تحديات بناء الدولة الفلسطينية « كما جاء في البيان الوزاري الصادر عن الاجتماع الثلاثي، ولهذا ثمن الوزراء « مساعي مصر لإحياء عملية المصالحة الفلسطينية مرة أخرى بناء على اتفاق القاهرة لعام 2011، وجهودها لتخفيف الأزمة الإنسانية التي يمر بها قطاع غزة «، مما يعكس نظرة الأطراف الإيجابية لما تفعله القاهرة، ولما تنوي فعله بعد أن أعلن بوضوح أن الأردن وفلسطين يقبلون تكليف مصر باستمرار جهودها ومساعيها نحو معالجة الملف الداخلي الفلسطيني .
اللقاء الثلاثي، ليس صدفة، وليس مفروضاً، وليس منة، بل هو يعكس موقع مصر والأردن، وأنهما في خندق المساهمة والدعم، بل وخندق الشراكة مع الشعب العربي الفلسطيني، ليس فقط لدوافع قومية ملزمة تستوجب دعم وإسناد الشقيق الفلسطيني، بل لسبب جوهري مفاده أن القضية الفلسطينية، بتبعاتها ونتائجها إنما تدخل في صُلب الأمن الوطني للبلدين الأردن ومصر ومصالحهما، ولو كانت سوريا ولبنان في وضع أفضل مما هما عليه، فهما أيضاً شركاء في المعاناة والأثر والنتائج، بعد أن استطاع المشروع الاستعماري التوسعي، ونجح عام 1948 وما تلاه برمي المشكلة الفلسطينية وعنوانها خارج فلسطين من خلال قضية اللاجئين الذين يشكلون بمجموعهم حوالي نصف الشعب الفلسطيني، ومع أن الرئيس الراحل ياسر عرفات وإعتماداً على نتائج الانتفاضة الجماهيرية الأولى عام 1987، استطاع ترحيل العنوان الفلسطيني وإعادته من المنفى إلى الوطن، بعودته مع أغلبية قياداته وعدد وافر من مؤسساته، وأكثر من ثلاثمائة الف فلسطيني، فبات العنوان والنضال والاشتباك على أرض الوطن، لا من خارجه، في مواجهة عدو الشعب الفلسطيني، والشعب الفلسطيني لا عدو له، سوى عدو واحد : المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي الذي يحتل أرض الفلسطينيين، ويصادر حقوقهم، وينتهك كرامتهم، وبات بالضرورة على الطرفين الأردني والمصري دعم نضال الشعب الفلسطيني لتبقى قضيته وعنوانها وأدواتها هناك على أرض وطن الفلسطينيين، الذي لا وطن لهم غيره، وبذلك يحققان غرضين أولهما حماية الأمن الوطني للأردن ومصر من أي تبعات سياسية وأمنية على بلديهما، وثانيهما دعم الشعب الفلسطيني بصموده ونضاله على أرضه، وهو ما يستوجب المبادرة الفلسطينية في التوصل إلى ما هو مطلوب : وحدة الفلسطينيين في برنامجهم ومؤسستهم التمثيلية وأدوات كفاحهم المتفق عليها .