ميساء سلامة " غزة تغرق موتاً "

ميساء سلامة " غزة تغرق موتاً "
حجم الخط

بوجهه الأربعيني الذي تزاحم فيه الوجع حتى استقر بين تجاعيد يومه ، يلف دروب المدينة على عربته الصغيرة ، يبيع قطع الكعك الطازج والخبز ، يدور فيها وكأن طرقاتها حبال تخنقه؛ لا شيء جديد في دروبها فكل شيء يراه ميتا حتى الضحكة منتهية الصلاحية في واقع صعب .

ينظر لاستدارة الكعك وتدور بمخيلته دوائر متشابكة فيها امه التي ينهش السرطان جسدها دون علاج في الخارج ، وملابس أطفاله البالية ، ومتطلبات منزله التي اصبح عاجزا عن توفير ادناها ، ابنته الجامعية التي حالت الظروف الاقتصادية عن اكمال مسيرتها التعليمة ، وبائع السوبرماركت بصوته الحاد وهو يهدده بالحبس ان لم يسدد ديونه ، يزداد الخناق وكأن الحياة تنحره وتقلب في القلب بطيناً على أذين .

خلف كل قصة موت كهذه في قطاع غزة حكاية اخرى ، تخرج رائحتها من زقاق الروح ، فحين يعجز رب الأسرة عن بناء غرفة تأوي أطفاله ، أو يقف ينظر للخرجين في بيته وهم يتأرجحون على عتبات اليأس مع اكوام متراكمة من الشهادات دون فرص عمل او سفر ، فليس من الطبيعي أن يمضوا جميعا بالحياة قُدماً متجاهلين ثقوب قلبهم وخلايا الخذلان الحيّة في أكبادهم نتيجة لانحسار الحياة .

نماذج كثيرة لمن اغرقهم الهم حتى ابتل العظم وجعا على الارصفة، ومن تضخمت آلامهم المكتومة حتى انشرخ غلاف الفؤاد من بطالة وحصار وحروب نثرت ملح الخيبة على جنبات اجفانهم حيث ما مر به الشعب الفلسطيني في الفترة الأخيرة ليس بالأمر الهين .

في ذات السياق، ان شعور المواطن الغزي بالفشل الشديد في مواجهة هذا الواقع الذي يعيش فيه وتدبير شؤون حياته اليومية، قد يجعله غير قادر على التكيف ويدفعه نحو الارتداد على الذات، وفي المقابل هناك من تجعلهم ذات الظروف اكثر قدرة على التكيف والاصرار فتختلف القدرة في التعامل مع المعطيات .

من الفئة الاولى سابقة الذكر عدد من الضحايا ما زلنا نذكرهم كأرقام دون البحث الحقيقي عن خطوات علاجية حيث كنا بالأمس نودع أبناءنا الذين يموتون غرقاً عبر البحر في قوارب الهجرة، واليوم هم يموتون بطرق بشعة للانتحار عبر الحرق والخنق وشرب المواد الكيماوية بشكل متعمد. وغيرها.

فكما سمعنا مواطن فلسطيني أقدم ، على إشعال النار في نفسه وإلقاء شاب من سكان مدينة رفح جنوب القطاع نفسه من على سطح الطابق السادس ومواطن اخر من سكان مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، أقدم على الانتحار بعد أن شنق نفسه بحبل في سقف إحدى غرف منزله .

كل تلك المحاولات للانتحار يجمع بينها قاسمين مشتركين :هما العوز الشديد ،وانسداد الأفق الذي اصبح يتزامن مع مسار التحول المقلق في المنظومة القيمية التي أوقعها الانسداد الاقتصادي والاجتماعي والقهر الأمني في بلادنا .

ظاهرة الانتحار لا يمكن تجاهلها وان كانت فردية و لا يجوز لنا اخفائها خلف ستار لأشخاص اقتنعوا ان الحياة في باطن الارض خير من ظاهرها وانها حلا مثاليا للهروب من توقّف قطار حياتهم عند محطات متعددة كالاحتلال والانقسام الذي لم نستطع منذ اعوام مغادرته إلى محطة الوحدة الوطنية .

عطب شائع وقد يتفاقم أصاب شعب اصطدمت طموحاته بصخرة جعلت التمرد القاتل ضد كل ما يسلب إنسانيته وكرامته حلا .

ورغم سوداوية الفكرة ورفضها التام الا انها تبقى رسالة احتجاج ضد واقع لا يليق بالحياة الانسانية مفادها " كفى افتحوا لنا آفاق الحياة، فحياة كهذه لا تليق بآدميتنا".