يتكوَّع قطاع غزة على مساحة لا تتجاوز ثلاثمائة وستين كيلومتراً، بينما قصص أهله تتجاوز المساحة وتفيض، انها البقعة التي تحظى بلقب الأكثر كثافة في العالم، لكنها في الواقع المكان الذي يتكثف فيه الوجع ويتقطَّر. حيث يتأكد أهلها وزائروها ويلمسون بأيديهم حقيقة انسداد الأفق أمام الحياة، انسداد الأفق أمام الحد الأدنى للحياة، في استنشاق هواء نقي. «غزة» تتحول إلى مكرهة صحية وبيئية، انسداد الأفق أمام تغيير مشهدها، السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لا جديد فيما أسلفت، لا أحد يتوقع أي جديد، في هذا المقال أو في سواه. في المساحة المحدودة لكل إنسان قصة، في كل بيت أكثر من قصة، للبحر قصص وأسماكه حكايات خطيرة، تسرب المياه العادمة وتلوث مياهه وثماره، روائح تزكم الأنوف، فقد السيطرة.
للمرافق العامة قصص خاصة، المرافق الخدمية الصحية والاجتماعية والأمنية. للفصائل قصص، وللمؤسسات قصص أخرى، للحدود والمعابر قصص.. جميعها مذيلة بتوقيع الانقسام والفئوية وفقد البوصلة والوجهة.
قتامة صورة غزة القاتمة رُسِمَت بريشة الاحتلال، حروبه واجتياحاته وحصاره وقتله الحياة بوسائل حداثية جهنمية، واستكملت ريشة الانقسام السياسي صورة القتامة. زرعنا انقساماً فحصلنا على غزة غير صالحة للعيش مع عام 2020؛ وفق تفاصيل تقارير الأمم المتحدة عام 2012، محملين الحصار الإسرائيلي مسؤولية خنق القطاع، والانقسام وحكم حماس مسؤولية عدم القدرة على القيام بما من شأنه وقف التدهور.
في العشرية الأولى بعد الانقسام، نقف على محددات تقرير آخر صادر عن ذات الجهة، بأن جميع «المؤشرات تسير بالاتجاه الخاطئ»، «النزول تحت الحد الأدنى بأشواط لمستوى حياة مقبولة»، وصولاً إلى تأكيده أن الموعد النهائي لصلاحية الحياة هو عام 2020. يقول التقرير في عام 2017: القطاع يقترب فعلياً بشكل أسرع من التوقعات. 95% من مياه القطاع غير صالحة للشرب، معدلات بطالة الشباب تقترب من 60%، تردي الحصول على الخدمات الصحية والكهرباء والماء، صيرورة طبيعية!
مقاربة الحلول في غزة ليست بالكلام، الواقع أقوى وأكثر متانة وتصلُّبا. غزة لم تعد اقليما متمرداً على الشرعية. كذلك، لم تعد غزة مترددة اتجاه الحراك الشعبي لفرض الوحدة بإرادة الشعب ومصالحه، غزة ليست متمردة أو مترددة. بقولٍ آخر: نموذج غزة تحت حكم «حماس» لن يُسمح بإفشاله، كونه النموذج الوحيد المعبِّر عن حركة الإخوان المسلمين بعد فشل حكمهم في مصر بعد الثورة. أما الحراكات الشعبية لإنهاء الانقسام فقد مُنيَت بضربة موجعة، جعل البوصلة تهيم على وجهها، على أثر اجراءات السلطة في رام الله تجاه القطاع.
يسود شعور عام في المجتمع الغزاوي بتخلي السلطة عنهم، تفسير وتحليل قرار التقاعد «القسري» والاقتطاعات المالية من رواتب الموظفين، في نظر الجميع أن الإجراءات المالية تُعَبِّر عن توجه مفاده بَتْر القاعدة الاجتماعية للسلطة والتخلي عن رصيدها وضمانة حضورها السياسي والمعنوي والتنظيمي، خطوة نحو الانفصال الكامل. بَتْر الحقوق مقدمة بَتْر القطاع.
بالنتيجة، تنبري الاحصاءات بجفاف لتطرح حقائقها المركزة، نصف السكان يرغب بالهجرة إنْ قُدِّر لهم ذلك، يأساً وإحباطا، متروكون يكابدون «روزنامتهم» وحدهم، يواجهون مصائرهم منفردين، يبحثون عن حلولهم الفردية دون توقعات عالية، البحث عن المستقبل بعيداً عن القطاع..
زيارة إثر زيارة، متخطين الحاجز الكابوسي المسمى «إيرتز»، حفاة على أحد دروب الألم الفلسطيني، المجهَّز بأحدث آلات الاختراق الاحتلالية، تزداد القناعة بأن «غزة» وأخواتها تقف على مكان يقع بين الوجود والعدم، مدينة تصحو كل صباح خائفة من المستقبل، مدينة لا تدير حواراً فيما بينها، انتهى عصر الحوارات...تنكفئ على حزن مقيم مجهدة نفسها في التفكير بالفراغ، تنام لتحلم بيوم أفضل فقط، بوعيها الفطري توقفت عن الأحلام والخطط طويلة الأمد، فَغَدُها مرئي بوضوح على صفحة كفِّها.
غزة مدينة تقف على حافة الحياة، مدينة كثيفة السكان خفيفة الموارد؛ أعاد الاحتلال انتشاره حولها، براً وجواً وبحراً. فاعتقد أولو الأمر فيها أنها تحررت وحرة، تغلَّب الصراع الثانوي، الحكم والسيطرة، على الصراع الرئيسي، هذه هي القصة.
قبل من يحكم غزة..من سيعمر غزة..؟
16 سبتمبر 2024