ما هو المشروع الوطني الفلسطيني؟ وهل فعلاً تجسده حركة فتح، وفصائل منظمة التحرير؟ وهل يختلف عن مشروع حماس؟
بدايةً، هل من الضروري أن يكون للفلسطينيين مشروع وطني؟ بحسب الكاتب إبراهيم أبراش؛ فإن كل شعب، حتى يحقق ذاته ويمارس حياته الطبيعية، لا بد وأن يمتلك مشروعا وطنيا يحدد من خلاله مرجعياته وأهدافه وطموحاته وآليات تحقيقها، وثوابته الوطنية، ويتفق على القواسم المشتركة التي تتجاوز النزعات والارتباطات ما قبل الوطنية، والقادرة على مواجهه التحديات الخارجية.. فإذا كان الوطن متجسدا بدولة مستقلة ينتفي مبرر الحديث عن مشروع وطني؛ لأن المشروع يتجسد بقيام الدولة، ويتم التعبير عنه من خلال رموز الهوية والقانون الأساسي أو الدستور، أو من خلال برامج الأحزاب والقوى الوطنية (الحاكمة والمعارضة).. ولكن عندما تغيب الدولة – كما هي حال فلسطين - ويصبح الوطن كهوية وثقافة مهددا (وجوديا) بسبب الاحتلال؛ يصبح المشروع الوطني ضرورة (وجودية)، وينتفي مبرر وجود إيديولوجيات عابرة للوطنيات، أو ما قبل الوطنية، بمعنى أنه في حالة وجود أحزاب وحركات في إطار حركة التحرر فعلى هذه القوى توطين أيديولوجياتها وإستراتيجياتها ضمن ثوابت المشروع الوطني.
وعند الحديث عن المشروع الوطني يجدر التمييز بين ما هو وطني، وما هو سياسي؛ حتى لو كان بين المفهومين قدر كبير من التداخل والتشابك؛ الوطني أكثر عمقا وأبعد مدى، بينما السياسي محكوم بمعطيات اللحظة التاريخية والفرص المتاحة والمناورات السياسية.. وهنا، يمكن القول إن المشروع الوطني الفلسطيني يقوم على ثلاثة مرتكزات، هي: وحدة الشعب الفلسطيني، الانتماء لفلسطين أولا، وضرورة إبراز الهوية الوطنية الفلسطينية كنقيض مركزي للمشروع الصهيوني.. وهذه المرتكزات الثلاثة (الوطن، الشعب، الهوية) تمثل المنظومة الوطنية الجامعة لكل أبناء الشعب الفلسطيني بصرف النظر عن السياقات التاريخية والسياسية التي تطورت فيها كل مجموعة، وتشكلت فيها مصالحها السياسية (الضفة، غزة، القدس، داخل الخط الأخضر، المنافي والشتات)، لكنها تجتمع على هذا المشروع، لا سيما وحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، مع ضرورة النظر إلى المصالح والتصورات السياسية المتباينة للمجموعات الفلسطينية على أساس التكامل لا التناقض. وضمن هذا المنظور يتم التعامل مع التصورات السياسية المختلفة كتصورات ديناميكية متكاملة. (العلاقة بين الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، التقرير الإستراتيجي، مركز مدار، تموز 2017).
وبناء على ما سبق؛ فإن المشروع الوطني الفلسطيني يعني باختصار: الكفاح من أجل حق تقرير المصير، والتحرر من الاحتلال، وتحقيق الاستقلال الوطني، وإقامة الدولة الفلسطينية، وضمان حق العودة، وبناء المجتمع الفلسطيني المدني التقدمي، وفقاً لما نصت عليه وثيقة الاستقلال، والميثاق الوطني، والقواسم المشتركة بين النظام الداخلي لفتح وبقية القوى والأحزاب الفلسطينية، واستنادا للثوابت الوطنية التي حظيت بالإجماع الوطني، وعلى أساس وحدانية تمثيل منظمة التحرير لكل الشعب الفلسطيني.
وهذا المشروع يتضمن دعم صمود وكفاح الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، بثباتهم فوق أرضهم، وصمودهم أمام السياسات العنصرية الإسرائيلية.
هذا المشروع الوطني بسماته العامة يتفق جزئياً مع المشروع الذي تمثله «حماس»؛ لكنه يتباين معه في أوجه عدة (أي مع مشروع الإسلام السياسي) والذي يعترف بشكل أو بآخر بالتقسيمات الطائفية للشعب الفلسطيني، ويقوم على تصنيف المجتمع بين مؤمن وكافر.. وينظر للصراع العربي الصهيوني من منظور ديني، ويدعو لإقامة دولة دينية، ويقدم في أولوياته «الأيديولوجي» و»الديني» على «الوطني».. فضلا عن ارتباطه بالمشروع الإسلامي السياسي العالمي، وتحديدا مشروع الإخوان المسلمين.
وانطلاقا من هذا المفهوم اعتبرت «فتح» أن المرحلة التي نمر بها مرحلة تحرر وطني، وذلك على ضوء فهمها للخصوصية الوطنية للقضية الفلسطينية، وعلى فهمها للبعد المحلي للدور الوظيفي للكيان الإسرائيلي، وعلى فهمها للصراع وركائزه الحقيقية، وبالتالي رأت أن أداة الحل يجب أن تكون وطنية، من خلال حركة تحرر بمحتوى وأسلوب وطني وأداة وطنية، وتلتقي من خلالها كافة القوى والشرائح الفلسطينية على برنامج واحد وهدف واحد، هو التحرير والعودة؛ لذا، لا يجوز وجود أكثر من مشروع وطني، حتى لا تتصارع هذه المشاريع مع بعضها، والتاريخ يخبرنا أن القوى المعادية كانت تعمل دوما على شق وحدة الشعب، بخلق تيارات وأحزاب بمسميات عديدة، وتوريطها في مواجهات مع الوطنيين الحقيقيين أصحاب المشروع الوطني التحرري.
فعندما كان المشروع الوطني واحدا موحدا في إطار منظمة التحرير، حققت الثورة أهم إنجازاتها؛ حيث حولت الفلسطينيين من جموع لاجئين إلى شعب يناضل لنيل حريته واستقلاله، وأحيت القضية وطرحتها بقوة في الساحة الدولية، وانتزعت اعتراف العالم بالمنظمة ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني. وعندما تشظّى المشروع الوطني، حصل الانقسام، وتراجعت القضية الفلسطينية إلى أدنى مستوياتها.
ولكن المشروع الوطني لا يقتصر على المواجهة العسكرية والسياسية مع المشروع الصهيوني، بل يمتد لما هو أبعد من ذلك، وفي هذا السياق تقول فتح إن لديها برنامجها السياسي والاجتماعي، ورؤيتها لطبيعة الكيان الفلسطيني الذي تناضل من أجل تحقيقه، وهو حسب ما تراه برنامج تقدمي تحرري، يقوم على أسس ديمقراطية، ويسمح بتداول السلطة سلميا، ويسعى لبناء دولة مدنية مؤسّساتية تلتزم بالقانون والدستور، وتعامل جميع مواطنيها بعدالة دون تمييز على أساس اللون أو الجنس أو الدين (دولة المواطَنة)، وليس فيها أي شكل من أشكال الحكم الثيوقراطي أو الاستبدادي أو الوراثي، وتضمن هذه الدولة حقوق الأقليات، وحرية العبادة، وحرية الفرد وحقوقه المدنية والشخصية، وتحترم المرأة، وتلتزم بالشرعية الدولية، وتقيم علاقاتها مع العالم على أساس حُسن الجوار ووفق المواثيق والمعاهدات الدولية.
صحيح أنَّ المشروع الوطني الفلسطيني يعاني من أزمة الانقسام، وتآكل الشرعيات، وعدم تجديد الهيئات القيادية، ومن انسداد الآفاق أمام خياراته المعتمدة.. وأنَّ «فتح» وبعد مرور أكثر من نصف قرن على انطلاقتها لم تنجز غايتها، ولم تحقق التحرير الذي وعدت به؛ بل وأصابها الترهل، وتراجعت عن بعض أهدافها، وغيرت كثيرا في إستراتيجياتها... وهذا لأنها تعمل في ظل ظروف بالغة التعقيد والصعوبة، وتخوض أصعب وأطول صراع في التاريخ، ضمن موازين قوى مختلة بالكامل لصالح العدو.. (مع الاعتراف بوجود أخطاء ذاتية قاتلة)، ومع ذلك ما زالت تعلن في أدبياتها ومؤتمراتها الحركية أنها لم تحد عن هدفها الأساسي ومبرر وجودها، وهو تحرير فلسطين.