صدرت عام 2017 رواية "الصوفي والقصر-سيرة ممكنة للسّيّد البدويّ" للرّوائيّ المتميّز الدّكتور أحمد رفيق عوض، عن دار الشروق للنّشر والتّوزيع في عمّان ورام الله. وتقع الرّواية في 304 صفحات من الحجم المتوسّط.
بداية يجدر التّنويه أنّ الرّوائي أحمد رفيق عوض بدأ كتابة الرّواية بتميّز واضح، فقد لقيت روايته الأولى "العذراء والقرية" التي صدرت طبعتها الأولى عام 1992 ردود فعل إيجابيّة واسعة، رغم المتاعب التي جلبتها له، حيث أنّ الأديب المصري المعروف جمال الغيطاني وصفها بأنّها" أفضل رواية عربيّة قرأتها في العقد الأخير" واقترح ترجمتها إلى لغات أخرى كنموذج للرّواية العربيّة المعاصرة.
وواضح أنّ د.أحمد رفيق عوض الذي صدرت له قبل هذه الرّواية ستّ روايات أخرى، يستفيد برواياته من التّاريخ بطريقة لافتة، وهذا ما لاحظناه في روايته مثل "مقامات العشّاق والتّجار"، و"القرمطي التي حازت على جائزة الملك عبدالله الثّاني الأردنيّة للرّواية"، وعكّا والملوك".
وأديبنا الذي عانى كثيرا في طفولته وبداياته، استطاع أن يثبت نفسه أكّاديميّا، أدبيّا، إعلاميّا واجتماعيّا بجدّه واجتهاده، يعرف جيّدا كيف يختار مواضيع رواياته، التي تحمل في ثناياها دلالات يمكن سحبها على الواقع المعاش حاليا. ففي روايته هذه التي نحن بصددها "الصّوفيّ والقصر" عاد بنا إلى القرنين الثّاني والثّالث عشر الميلاديّين، وما تخلّلهما من انكسارات وهزائم وتفكّك، جعلت المشرق العربيّ نهبا للطّامعين والغزاة الفرنجة والتّتار.
وسيلاحظ القارئ للرّواية أنّ الكاتب ليس ناقلا للتّاريخ بحرفيّته، فهذه ليست مهنة الرّوائيّ، وإنّما استفاد من مفاصل تاريخيّة لبناء روايته، التي رافقتها حقائق تاريخيّة ومعلومات حقيقيّة، معجونة بخيال الكاتب المبدع، فالتقط سيرة السّيد أحمد بن علي بن يحيى الملقّب بالبدوي أحد مؤسّسي الصّوفيّة، والذي يعدّ مع عبد القادر الجيلاني، والشّيخ أحمد الرّفاعي من أشهر أعلام الفكر الصّوفيّ.
ومعروف أنّ الصّوفيّة حركة دعويّة لها فكرها الخاصّ في الزّهد بالدّنيا ومتاعها، ولها طريقتها الخاصّة في معرفة الذّات وعلاقتها بالذّات العليا.
وقد شكّلت هذه الحركة نهضة فكريّة في مرحلة الدّولتيّن الأيّوبيّة والمملوكيّة. ومن خلال الرّواية سيلاحظ المرء مدى السّطوة التي حظي بها أعلام الصّوفيّة، حيث كان يخشاهم الولاة والسّلاطين، ويستجيبون لمطالبهم خوفا من شعبيّتهم والتفاف الجماهير حولهم، هذه الجماهير التي فسّرت استجابة الحكّام لمطالب الدّعاة ومنهم "البدويّ" بأنّها كرامات إلهيّة.
والشّيخ البدويّ بطل الرّواية الرّئيس ولد في مدينة فاس المغربيّة، هاجر إلى مكّة طفلا، وتلقّى علومه فيها، وعندما بلغ الأربعين اتّجه إلى بلاد الشّام حيث شاهد تحرير الملك النّاصر داود من الصّليبيّين، ثمّ ارتحل إلى دمشق، ومن بعدها إلى العراق حيث زار ضريحي معلّميْه عبد القادر الجيلاني، وأحمد الرّفاعي، وساءه ما رأى من تفكّك الحكّام وتآمرهم على بعضهم البعض لدرجة التّحالف مع التّتار والفرنجة، فعاد إلى مكّة ثانية، ومنها رحل إلى دمياط في مصر.
ويلاحظ من خلال الرّواية أنّ "البدويّ" يتّصف بالتّقوى والورع والزّهد، والجرأة في قول الحقّ، ولا أطماع ولا مصالح شخصيّة له، فقد رفض عطايا الحكّام والولاة، ورفض حياة التّرف التي كانت تعرض عليه، حتّى أنّه ابتعد عن النّساء، ويلاحظ أيضا مدى تقديس الشّعوب لضريحي علماء الصّوفيّة "الجيلاني والرّفاعي". ولاحقا وحتّى يومنا هذا لا يزال ضريح "السّيّد البدوي قائما في مدينة دمياط المصريّة، كمزار مقدّس يؤمّه المؤمنون ليتقرّبوا إلى الله بعباداتهم وصلواتهم فيه.
ويلاحظ من خلال توطئة الكاتب للرّواية أنّ السّيّد البدوي كان يحظى بتأييد واسع من مختلف الاّتجاهات "فقد ذًكر أنّه شيعيّ، وأنّه سنّيّ، وقيل أنّه منصوّف، وقيل أنّه تستّر بالتّصوّف، وقيل أنّه من آل البيت.......وقيل أنّه لم يكن موجودا أصلا!"
وهذا يعني أنّه بطل شعبيّ بكلّ المقاييس.
ما الهدف؟ وإذا ما تساءلنا عن الهدف الذي يبغي الكاتب الوصول إليه من هذه الرّواية؟ فإنّه يمكننا اختصار ذلك، بأنّ الكاتب الذي يعيش مرحلة التّردّي التي يعيشها عالما العربيّ في هذا العصر، فإنّه عاد إلى التّاريخ ليستخلص العبر منه، فكانت مرحلة الرّواية في القرنين الثّاني والثّالث عشر المياديّين، حيث كان ملوك الطّوائف، والغزاة الطامعون، والفقر والحرمان والجهل والتّفكّك، ثمّ ما لبثت الأمّة أن اعتدل حالها من خلال مصلحين ورعين ابتعدوا عن مصالحهم الشّخصيّة، ورغم مرارة المضمون الوارد في الرّواية، إلا أنّها تحمل دلالات تبشّر بأنّ الانكسارات التي تعيشها الأمّة والنّاتجة عن التّذيّل للأجنبيّ، والرّضوخ له، لن تطول، فسينهض من أبناء هذه الأمّة من يقود مسيرتها ويعيدها إلى أمجادها.
البناء الرّوائي: استطاع الكاتب بطريقة مذهلة أن يسيطر على مئات الشّخصيّات والأحداث والحكايات، وأن يربطها ببعضها البعض بأسلوب يطغى عليه عنصر التّشويق، فبنى روايته بطريقة محكمة لا خلل فيها، وهذا يثبت مدى الجهد الهائل الذي بذله فيها.