في نصوصها اعتلت الكاتبة المقدسيّة، نزهة الرّملاوي في كتابها البكر" عشّاق المدينة" صهوة لغتها؛ لتتجوّل بنا داخل مدينتها الّتي عشقتها حتّى النّخاع، مدينة القدس بمساجدها وقبابها وكنائسها وحاراتها وعقباتها وبيوتها وأسوارها وأدراجها؛ مدينة أفرحتها واحتوت طفولتها البريئة، مدينة آلمتها بما احتوته من متناقضات وتقلّبات اجتماعيّة باختفاء المعايير الاجتماعيّة والقيم الانسانيّة، وما حدث من مآسٍ خلّفها الزّمن على تلك المدينة على مرّ العصور؛ وما تركت تلك الأحداث والتّناقضات من أثر نفسيّ على شخصيّات نصوصها وقصصها.
في لغتها السّلسة العذبة، أطلعتنا الكاتبة على عادات وتقاليد أهل المدينة نحو المحبّة والاحترام والتّضحية من أجل الآخر والوفاء والاخلاص، والتّمسّك بالمبادئ الّتي نشأوا عليها وبلا حدود. تقاليد العيب والحرام في المجتمع الفلسطيني عامّة والمقدسيّ خاصّة كما في نصوص الكاتبة، كانت لها الأثر السّلبيّ على شخصيّة الفتاة المراهقة الّتي لا تقدر أن ترفع عينيها في وجه الفتى، أو الشّاب، أوتتلفّظ معه بجملة أو كلمة؛ كذلك الفتاة الّتي حكم عليها بالزّواج المبكّر ومنعها من قول "لا" مهما كانت النّتيجة، حتّى لو عاشت نفسيّتها تحت العذاب خلال فترة زواجها.
في مدينتها المقدّسة أدخلتنا الكاتبة نزهة الرّملاوي إِلى دهاليز معتمة، وأخرى مضاءة، وما يدور في تلك الدّهاليز من همسات وحكايات وأحداث مفرحة أو مؤلمة، قد سلّطها الزّمن على أهل تلك المدينة بكلّ رحابتها.
في نفسيّة الشّخصيّات نجد المعاناة والألم بسبب وجود الاحتلال الّذي يجثم فوق ظهر المدينة. النفسيّات المتعبة للرّجال الّذين راحوا يبحثون عن لقمة العيش عند كوهين أو ديفيد "بدنا نعيش سوا سوا خبيبي كلّه بدو ياكل" ص80.
من خلال قراءتنا لشخصيّات نزهة الرملاوي نجد مدى القهر الذي شربه المقدسيّ بعد حرب حزيران 1967، ووقوع الأقصى بأيد جبّارة. لا أعتقد بأنّ هناك من يقدر على تحليل نفسيّة المحتل المنهزم الضّائع، فكلّها نفسيّات يصعب تفسيرها، في نصوصها برزت بوضوح نفسيّات هذه الشّخوص. في قصة " ألف غياب وغياب" ص91 ظهرت معاناة الجدّة الّعائدة إِلى مدينتها القدس، والرّحلة المريرة الّتي مشتها من الزّرقاء في الأردن حتّى وصولها القدس. معاناة التّفتيش المنتهك لكرامة الانسان " كلّه يهون عن بنت هالحرام اللي بتحسّس، يقصف عمرها ما بتستحي" ص 93.
شخصيّة الطّفل هي أيضا عانت وكابدت بسبب الاحتلال، كم كان مؤلما على نفسيّة الجدّة حين مزّق الجندي لعبة الحفيدة أثناء التّفتيش، ولم يكن بحسبانه بأنّ هذه اللعبة تنتمي لطفلة متعطّشة، تحلم بها منذ أربعة أعوام، كانت قد اخفتها الجدّة؛ خوفا من ضياعها واتلافها، وها هي تتلف بلحظات وتتلف معها نفسيّة طفلة بريئة، هي حفيدتها.
تعرّضت شخصيّة سميرة في قصّة" عشّاق المدينة" لأزمة نفسيّة؛ لأنّها عاشت صراعا مريرا ما بين أن تلحق حبيبها؛ لتعيش معه في أبو ظبي، أم تبقى في مدينتها، القدس الّتي تعشقها.
في قصّة " ملكة المجنونة"
حين كانت تتعرّض للضّرب من قبل والدها بواسطة الحزام؛ خوفا عليها من التّعرض للاغتصاب، كذلك تعرّضها لركلات من قبل أولاد الحارة والأخوة؛ كلّ هذا غرز تأزّمًا نفسيّا حادا عند الفتاة ملكة. أمّا بالنسبة للجدّة الّتي وقفت أمام بيت الطّفولة في حيّ الطّالبية المهجّرة وعلاقتها مع الورد الجوري، الّذي شهد عشقها لبيتها ووطنها.الألم النّفسي إثر الفقدان للبيت والوطن، ورؤية الجدّة للساكن الجديد أمامها – الغريب المحتلّ- التصق بنفسيّتها فجاءت ردّة فعلها، بأن بصقت في وجهه وقالت له: اخرج من حيّنا.
بالنسبة لقصّة الفرّان فقد تعرّضت نفسيّته للأزمة؛ بسبب اتّهامه باغتصاب الفتى، كذلك تأزّم نفسية الفتى؛ لأنّه سرق الأرغفة بسبب العازة والفقر.
نجد أنّ نفسيّات الشخصيات – القديمة- قد وجدت راحتها من خلال الأدعية وتقديم القرابين، وتقديم شموع النذر والبخور والتّوجّه نحو مقامات الصّالحين.
نشعر بأنّ الشّخصيات الّتي عاشت في الزمن السّابق لم تجابه الحالات النّفسيّة الصّعبة، كما في الشّخصيات الّتي تعيش في الوقت الرّاهن؛ ربّما بسبب البساطة والقناعة الّتي كان النّاس يحيونها في تلك الفترة الزّمنيّة .
لغة الكاتبة كانت وسيلة مقنعة ومريحة للقارئ، حيث أوصلت فكرتها بلغة سلسة دون أدنى عناء. لقد استخدمت الكاتبة المحسّنات البديعيّة واللغوية، وكثرت في لغتها التّشبيهات والاستعارات الجميلة، الّتي تبعد النّص عن التّعبير القرائي المباشر:
" مدينتنا تعشق الحياة وكعادتها غادة بهيّة...تسدل شعرها على كتف المحبّين، فيهيمون بها سحرا....شاكرين الله بأنّهم ولدوا من رحم مدينة ليست كأيّ مدينة، تبوح أقواسها بالأسرار...أقبل اليها فأرى تفاصيلها تسري في عروقي وتجدّد خلايا العشق فيّ." نذور على طاقات المدينة ص105.