تحسين يقين " إنت أهل حالك! "

تحسين يقين " إنت أهل حالك! "
حجم الخط

وحدنا؟ وهل كنا غير ذلك طوال سنوات؟

ليس اكتشافا!

هناك في خريف نيويورك، مجال للرسم والشعر والحزن، ولكن ليس للخوف!

لذلك، له أن يطيل في امتداح شعبه؛ والمقدسيين، معيدنا إلى مديح آخر قبل 35 عاما، حين جعله شاعرنا مديحا عاليا. لكن لا بأس لو شكر من قدّم وردة أو شربة ماء أو دواء أو قصيدة أمل أو حتى رثاء

لعل الخلاص هناك، قل بدايته؛ لعلنا هنا نبحث-ولو في الوقت الضائع- عن " عن حلول أخرى غير حل الدولتين . في اطار استراتيجية جديدة شاملة"، لعل البحث يكون أيضا عنا الذين تفرقنا كغنم السمار.

هل من بديل آخر؟

له، للرئيس ولنا أن نغضب، لكن ليس له ولا لنا أن نشعر بالخذلان؛ ليس لأنه لن يفيد أصلا، ولكن لأن لنا، نحن، ونحن إن كنا معا، فسنكون شيئا، سنكون يوما ما نريد، وليس هذا شعرا فقط، هو نبوءة!

في مسرحية "خيل تايهة "للكاتب السوري عدنان العودة، والمخرج الفلسطيني إيهاب زاهدة، يتحدث "هويدي" الذي تبنى الطفلة "تايهة" التي صارت شابة:

"لزوم تعرفي منشان ما تظلّين متأملة. أهلك ماتوا خنق من طوز الغبره، بذات الليلة الِّلي تهت بيها.

قبلك ما كان لي أهل، وبعدك ما ظللِّي أهل.

أنت أهل حالك.

لعل الجواب يكون في الفن والأدب أكثر عمقا.

هل من رمز هنا؟

في مسرحية "خيل تايهة"، تحيا الطفلة البدوية سنواتها الأولى في مضارب قومها، مسرورة بتفاصيل العيش في كنف الأهل، فلها العبث الطفولي البريء، ولها انتظار البيضة، وتسريع الحصول عليها، ولها أسئلتها النفسية عن الذكورة والأنوثة، التي تجابه بالنهي عنها، تكتشف عالما صغيرا جدا هو عالمها الكبير، لتسوقها رياح الطوز(الخماسين) وهي ذاهبة لإحضار مشط الشعر لأمها إلى حكاية أخرى وعالم آخر له أسئلته المختلفة حينا والمتشابهة حينا آخر.

تجلبها العاصفة ليس من مكان إلى آخر، بل من زمان إلى زمان آخر، من خلال عيشها الجديد في قرية، مع أب جديد هو هويدي أشهر سايس خيول في عشاير الشوايا، وهناك تبدأ رحلتها، حيث يطلق عليها اسم "تايهة". وبعد عقدين تكبر تايهة، يحاول والدها الثاني الذي تبناها عشرين عاما أو يزيد أن يكشف حقيقة أهلها، حين دنا من الرحيل، فيفاجأ بأن أهلها هم الآخرون ماتوا من رياح الطوز خنقا. فيقول لها وهو على فراش الموت:

-انت أهل حالك!

هل من رمز هنا؟

ونحن كما وصفنا شعراونا، كنا كأي شعب عاديّ، نمارس الحياة، ومعروف أن أهل كنعان هم شعب الزراعة والحياة، لا الغزو، كنا نعيش هنا كما يعيش البشر، ولكن وفي طريق رحلة تنويرنا التي انطلقت من القاهرة وبيروت والقدس، إذا بنا نحاكي فعل "تايهة"، نتوه ونتشتت لاجئين ومقيمين، فلم نجد غير حالنا، صرنا أهل حالنا، دون أن ننسى "كرت المؤن"، الذي وهبنا بعض الطعام والملابس المستعملة، ووعود الساسة لنا بالعودة.

فكان ما كان من رحلة "تايهة" ورحلتنا نحن منذ 69 عاما، وليس الخمسون عاما، وحسنا فعل الرئيس حين أعاد الأمور لأصولها، إلى النكبة الكبرى.

ليست القصة خلاصا سياسيا، بل خلاصا حضاريا، حيث لن يكون للأمم المتحدة، ولا للدول الكبرى هيبة واحترام، إن لم تساهم جميعا في الفعل الحضاري الأول: الدل وحل النزاعات، أو قل حل النزاعات من خلال العدالة والكرامة.

- إنت أهل حالك!

- كيف!

في العودة إلى صفوف الجماهير، ولي في هذا شعارا!

للشعب، ثم الشعب، ومن يمثل مصالحه خير تمثيل..

قلنا: تقوية بقائنا هنا على الأرض، فنحن الكيان السياسي والمعنوي، نحن على هذه الأرض الرائعة، التي ينبت تراب جبالها القليل ثريات العنب وأضواء التين والزيتون. هنا بالتنمية المعتمدة على الإنسان، وله، وبإدارة واعية ملتزمة يقوم بها من يبحث خلاص شعبه لا خلاصه الفردي أو الحزبي أو العشائري، "سنكون ما نريد"!

لم تكن قصة "تايهة وابنتها خيل" ولا قصتنا الفلسطينية للتشويق، بل للتفكير، ولتجاوز الشخوص إلى الأوطان والأمم وهي في رحلتها للخلاص الحضاري.

في خيل تايهة، حديث رمزي واجتماعي وحضاري عن المجتمع العربي، ونحن جزء منه؛ فهل كانت القرية خلاص البدو؟ وهل كانت المدينة خلاص القرية؟ أم هي حالة من التيه الحضاري، في ظل اختلاط هويات الأمكنة، وسوء الإدارة والحكم؟

تعامل الدولة مع القرية مثال على ذلك حن أهملت الأرياف والقرى: " بالأخير، تذكَّرت الحكومة قرى السهل الِّلي كانت نسيتها طول عشرات السنين، فقرَّرت إنُّو تبلش بتخديمها بالطرقات والكهربا بلكي تقدر تلحقِّها بالقرن العشرين".

هذا في المسرحية، فماذا لدينا هنا في الأرض المحتلة؟ وأرض اللجوء؟

وكما قال لتايهة والدها بالتبني أنت أهل حالك، كرر محمد القدسي العبارة نفسها لابنتها خيل، في دلالة لا تبعد عن الاعتماد على النفس في الحياة والنهوض، مانحها القدسي الأمل:

انت اللي جاية وأنا اللي رايح.."، نافيا عنها صفة الهائمة.

وهنا تبدأ خيل رحلتها الوجودية في النظر نحو الحياة بعد أن تفيق من حالة الصدمة:

وهيك شوي شوي، دخلت حلبة السباق ويّا هالناس، وصرت أركض أركض لحتى وصِّل، وقتها بس عرفت ورا شو كانت الناس عم تركض، كانوا عم يركضوا ورا السراب.

ولأني كنت بعرف السراب أكتر من غيري وقفت، وقلت لحالي:

-ـ يا بنت ما ظلك كتير لتعيشي، فشوفي الدنيا.

ورْجِعتْ من جديد، حِسْ بالصبح، بريحة الخبز، بطعمة القهوة، بالمشي تحت المطر، بوجوه الناس، حتى الضجر، رجِعتْ حسُّو واستمتع فيه، ورْجعِتْ دور عليك جوَّاتي.. باختصار رجِعت شوف الحياة بعين الميِّت".

"احنا اللي جايين"، نحن القادم، ونحن المستقبل، ما دمنا نعي معنى البقاء.

"مصر يا امّة يا بهية يام طرحة و جلابية

الزمن شاب وانتي شابة هو رايح و انتي جاية

جايه فوق الصعب ماشية فات عليكي ليل ومية

هكذا غنى ذات يوم ثمانيني الشيخ إمام من كلمات أحمد فؤاد نجم..

كاتب "خيل تايهة" التي فازت قبل عامين في مهرجان المسرح العربي، شاب سوريّ هو عدنان العودة، والمخرج شاب فلسطيني هو إيهاب زاهدة، هل من دلالة ما؟ أظنها دلالة الخلاصين التحررين القومي والحضاري معا.

قاربت رحلة تايهة وابنتها خيل على النهاية، لتبدأ رحلتنا الفكرية والشعورية!ثلاثة مستويات من الرحلة، الأولى رحلة الرمال والتراب، من المضارب إلى القرية، فالمدينة، والثانية رحلة خيل وتايهة الاجتماعية والسياسية والحضارية، والثالثة رحلتنا التي بدأت، والتي تتميز بأنها رحلة مسؤولية كبرى باتجاه التغيير الاجتماعي والسياسي والحضاري.

فهناك دوما ما هو أبعد من كسر النبوءة والغيبيات!

هناك الواقع، الحاضر والمستقبل لمن ينشده فعلا.

"وهيِّ (تايهة)ماشية لعند الجيران لتستعير المشط لأمها ياللّي بعدها عم تتحمَّم، هَبْ الطُّوز، بالأول غبرة حمرا خفيفة، وبعدين غبرة سودا غَطَّت قرص الشمس، وصارت الدنيا ظلمة، واختلطت عليها الجهات فوقفت بمكانها ما بتعرف شو بدها تساوي، تروح قدام ولاَّ ترجع لا وَرَا؟ تمشي يمين ولاَّ يسار؟ وصرخت من الخوف، والعَبْرة والغَبْرة خانقينها: يُما.. يُما.

ولمَّا لا أمها ولا حدا تاني رد عليها بهالجو المعتم، شجعت روحها ومشت، عساها تقدر ترجع بيتهن أو توصل بيت الجيران".

- ماني خايفة.. ماني خايفة.

من لم يخلّص نفسه لن يخلّص الآخرين، ثم ماذا عما قيل: ما حك جلدك مثل ظفرك!

اليتيم، إما أن يتوه، وإما أن يثبت ذاته ويحافظ على إرث أبيه، فقط له أن يريد، بعد ذلك ستكون أفعاله تجليات للإرادة.

ولا زالا الظل عاليا!

مش خايفين!

Ytahseen2001@yahoo.com