لغز الكون الأعظم (1~2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

كل من يقترب من محاولة فهم نظام الكون وآليات عمله، وكيف نشأت الحياة، وما هو دور الإنسان الوظيفي فيه.. وكل من يطرح على نفسه مثل هذه الأسئلة الوجودية، سيجد نفسه مباشرة أمام مدرستين مختلفتين تقريبا في كل شيء؛ الأولى تفسر الحياة وتفهم نظام الكون استنادا إلى الفهم المادي والتاريخي المجرد، بينما الثانية تنطلق من الإيمان بما جاء في الأديان حول الخلق، ودعّمته بالبراهين العقلية والنقلية، وما اعتبرته أدلة علمية لا تقبل الشك.
ولو كان للباحث خيار أن ينهل ما يشاء من المدرستين دون أن يعرض نفسه لخطر التكفير أو اتهامه بالجهل، لما كانت هناك مشكلة، لكنه سيجد نفسه في خضم معركة فكرية شديدة الشراسة! وكل طرف يدّعي أن نظريته تدعمها الاكتشافات التاريخية والتجارب العلمية.
منذ أن نضج العلم، وللعلماء مهمة واحدة، سواء كانوا في تجاويف الكهوف، أو على قمم الجبال، في المختبرات، أم في أعماق البحار، يفحصون ميكروبا، أو يحللون نواة ذرة، أو يتطلعون إلى أعماق الفضاء.. مهمتهم فك لغز الكون، والإجابة عن أسئلة: من أين أتينا، وكيف، وإلى أين نحن ماضون؟!
ومن المؤكد أن العلماء واجهوا عراقيل كبيرة، وصعوبات لا حصر لها حينما شرعوا بالإجابة عن تلك الأسئلة الكبرى، من خلال تأريخ مسيرة تطور الكون؛ وتكمن الصعوبة في ذلك، لأن الكون موغل في قِدمه، وفسيح في حدوده إلى حد الخرافة.. وأحدث المسبارات وأكثرها تعقيداً لا تصوّر لنا إلا جزءاً يسيراً جداً من هذا الكون المترامي الأطراف.
وعندما يتخطى العلماء حاجز المليارات من سنين الضوء يكون حديثهم في نطاق التكهنات والفرضيات، وحتى إنهم حين درسوا تاريخ الأرض - والتي هي تحت أقدامهم - واجهوا صعوبات جمّة، فما هو متوفر عن تلك الأزمان الغابرة من أحفوريات ومستحثات شحيح إلى حد الندرة، وبالكاد يعطي معلومات غامضة وأحيانا متضاربة، وهي دلائل تقترح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات.
ومع ذلك فإن العلماء متفقون، على الأقل، على قصة بدء الكون من خلال نظرية الانفجار العظيم، والتي أثبتها العالمان "بانزياس" و"ويلسون"، عندما رصدا ما يُسمّى النور الأحفوري، وهو النور الآتي من الأزمنة السحيقة من بقايا الانفجار العظيم. ومتفقون على أن ذلك الانفجار الهائل حدث قبل نحو 13.7 مليار سنة، وهذه المليارات هي عمر الكون..
ولم يستطع العلم اجتياز اللحظة التي سبقت لحظة نشوء الكون؛ أي لحظة ما وراء الخليقة، أو ما قبلها، ولم يقدم العلماء مقترحا نهائيا لكيفية نشوء الكون من العدم، ولأن العدم بمعناه الفلسفي غير موجود فيزيائياً، لذا باتوا على قناعة بأن الكون بدأ بالزمن (أي أنهما بدءا معا)، وصار كل قياس علمي لابد أن ينطلق من "زمن بلانك" وهو أقصر مدة زمنية ابتدأ بها الكون ممثلة في جزء من مليارات الأجزاء من الثانية.
والإنسان ومنذ أن تنطّح للإجابة عن تساؤلات نشوء الكون، كان ومازال ينطلق من غروره الذي زيّن له بأنه مركز الكون، وأن كل تلك المليارات من السنين من تاريخ الكون لم يكن لها إلا مهمة وحيدة، هي إنجابنا: نحن والحاضر الذي نحياه الآن، وأن مسيرة تاريخ الأرض الطويلة قد وصلت إلى خاتمتها، وأدركت غايتها بإيجاد الإنسان!!
وتاريخنا العلمي الحالي يقدم لنا سلسلة من النظريات التي حاولت فهم نظام الكون، بدأت منذ عهد "أرسطو" و"بطليموس"، وتواصلت عبر علماء المسلمين الذين ترجموا ما وصلهم من فلسفات يونانية وأضافوا عليها، ثم وصلت إلى "جاليليو" و"نيوتن"، ومن بعده "أينشتاين"، الذي دشن عهدا جديدا في علم الكون، وصولا إلى النظريات الذرية الحديثة. 
في القرن العشرين، تطور علم الكون بشكل جذري، وقد شكلت نظرية "أينشتاين" النسبية حجر الزاوية في هذا العلم، ومع ذلك، فهي تُشكل جزءًا من قاعدة علم الكون، وليس القاعدة كلها. وبالتالي كان على علماء القرن العشرين أن يرفدوا النسبية العامة بالفيزياء النووية، ثم بنظرية المجال الكونتمية، ثم بنظريات التوحيد المجالية الحديثة، حتى يتسنّى لهم التغلب على مفارقات علم الكون، وتفسير الظواهر الكونية التي تفجرت في الساحة العلمية في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولحل لغز نقطة بدء الكون؛ يقول العلماء الخلقيون إن انفجاراً هائلا بحجم الانفجار العظيم، كان يمكن أن يخلِّف وراءه دماراً رهيباً يؤدي إلى تبعثر للمادَّة في كلِّ مكانٍ على غير هدى، أو أن تتفوق مضادات المادة على المادة فينتهي كل شيء عند لحظة الولادة، أو أن تنهار هذه البذرة المتناهية في الصغر تحت تأثير قوة الجاذبية الرهيبة قبل أن يتاح لها المجال للتحول إلى كون، لتعود إلى العدم الذي انبثقت منه... وبما أن هذه الاحتمالات لم تحدث، بل أدَّى الانفجار إلى إبداع نظامٍ كونيٍّ بتصميم دقيق محكم، تنضبط فيه الكتل والأحجام والمسافات، وتنتظم فيه الحركة على الوتيرة نفسها من أدقِّ دقائقه إلى أكبر وحداته، على الرغم من تعاظم أبعاده، وكثرة أجرامه، ما يعني أن خالقا عظيما كان وراء ذلك كله.
ولبرهنة ذلك يقولون إن الكون بكل ما فيه من مادَّة وطاقة ومكان وزمان وُجد في وقتٍ واحد، وكانت له بدايةٌ محدَّدة؛ وبالتالي لابدَّ أنَّ موجوداً (خالقا) على الدوام كان سابقاً لوجود هذا الكون، وهو الذي أوجده؛ لأنَّه ببساطةٍ شديدة إذا لم يوجد أيُّ شيءٍ قبل ذلك، فلا شيء يمكن أن يوجد بعده، وأنه ليس هناك ما يدعو للافتراض بأنَّ المادَّة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنَّه حدث بينهما تفاعلٌ فجائيّ، لأنه من الصعب أن نميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزليَّة، والأبسط من ذلك هو أن نقتنع بأن ما حدث هو خَلْقٌ من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهيَّة للكون من العدم، وأنها هي صاحبة القرار بحدوث هذا الانفجار الرهيب، لأنَّ العدم بذاته لا يخلق وجودا، ولا يَنتُج عنه إلا العدم، وما دام للكون بداية، فلا مفرَّ من القول بوجود موجودٍ سابقٍ على وجود هذا الكون وبدايته، وهو أزلي ليس له بداية، وهو يسمو على المادة، لأنه غير ماديٍّ، وهو موجودٌ دائما وأبدا.
كيف أجاب العلماء الماديون عن هذه النقطة المحيرة؟ موضوع الجزء الثاني..