قل سيروا في الأرض فانظروا:
قبل خمسين عاماً كنت شاباً لا أعرف الكثير عن نفسي وعن بلدي، وكل ما أمتلكه من رصيدٍ معرفيِّ هو حكايات الأهل عن معاناة الهجرة واللجوء، ومفردات لغة المخيم ووجوه ساكنيه المثقلة بالألم والأحزان، وتلك الكلمات التي كان يرددها والدي (رحمه الله) "يابا يا أحمد اقرا.. بدي أفخر بك، وأشوفك مهندس أو دكتور كبييير قد الدنيا"..
الطفل أحمد يوسف؛ هذا الوجه الذي لم أتمكن من التعرف عليه عندما حاولت إمعان النظر والتفرس في صورة قديمة، جمعتني مع زملاء الدراسة في السنة الثانية الإعدادية، هو نفسه أحمد يوسف؛ الدكتور والمستشار والمفكر، بعد أن عركته تجارب سنين الغربة.. لقد جمعتني مشاهد الغربة مع الكثير من المشاهير في العالم الغربي، وكذلك في عالمنا العربي والإسلامي.. لقد التقيت هيلاري كلنتون؛ سيدة أمريكا الأولى في البيت الأبيض، وكذلك مع السيد توم كلنسي؛ أبرز الروائيين الأمريكيين، الذي تشرفت بكتابة بعض الأبحاث له عن الشرق الأوسط، كما جمعتنا منصات المؤتمرات وورشات العمل مع المستشرق البروفيسور جون اسبوسيتو؛ مدير مركز التفاهم الإسلامي - المسيحي في جامعة جورج تاون، والعديد من اللقاءات مع شخصيات مثل العقيد القذافي بقصر العزيزية في طرابلس، ورئيس الوزراء المغربي عبد الله بن كيران، والرئيس أردوغان في مقر مجلس الوزراء، وآخرين من الشخصيات القيادية والوازنة حول العالم خلال جولاتي في أكثر من خمس وثلاثين دولة، بعضها للدراسة وأكثرها في مهمات ذات طبيعة خاصة.
إن مجمل ما في هذه اللقاءات هو اكتشاف خطأ الكثير من الأحكام المسبقة التي عادة ما نطلقها على الآخرين، وأن "الآخر" لو أحسنا الحوار معه لأدركنا كم فيه من الخير، وأن علينا التفريق بين الشعوب وحكوماتها، حيث إن المصالح هي من تحكم العلاقات بين الدول وليس الأخلاق والقيم.. للأسف، إن انطباعاتنا عن "الآخر" أكثرها مشوهة وتفتقد للصدقية، وفيها الكثير من الجهل والتحامل وغياب الرؤية.
بعد نكسة عام 1967، تحقق لي ما كنا نردده في أشعارنا: سافر ففي السفر خمس فوائد تَفَرُّجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـةٍ ... وَعِلْمٌ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـدِ. لقد أدركت المعنى الحقيقي لما جاء في لاميِّة الطغرائي الاصفهاني "أن العزَّ في النقل"، وأن من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيرة وسعة، وأن الاغتراب يمنح الإنسان أكثر من فرصة للتجدد على مستوى الرؤية والفكر وحكمة تقدير المواقف.. فخلال رحلاتي التي جبت بها أصقاع الأرض، جاء الوقت لاستيعاب المعنى الحقيقي للآية: قل سيروا في الأرض فانظروا.. حيث تبين لي في فضاء تلك الأسفار بأن هناك علاقةَ تلازمٍ بين الارتقاء المعرفي والفكري وبين التنقل والترحال، ومشاهدة الآخر والتعامل معه، وهذا يعني محطات جديدة في حياة الإنسان فكرياً وثقافياً؛ أي مضاعفة عمره الزمني، من خلال هذه التجارب العلمية والمعرفية، والتي تُخرج الشخص من اختناقات "الأنا" والجغرافيا بمساحاتها الضيقة إلى فضاءات أكبر وسماوات أرحب، حيث يكتشف الإنسان فيها أنه مجرد "جُرم صغير" في عالم من الشعوب والحضارات، التي خلقها المولى (عز وجل) لتتعارف وتتعايش، وتصنع لحياتها أمناً واستقراراً، يصل بالإنسان إلى بلوغ ما أراده الله له من قيمة علوية ألا وهي التكريم: "ولقد كرَّمنا بني أدم".
إن السفر يعني الخروج من زجاجة المعرفة إلى بحرها الواسع؛ من الجيتو وعقلية الحصار، والتخلص من عقلية الغلو والتشدد والجمود المصاحبة عادة لحالة الحصار وجغرافية الأسوار، التي تفرضها - أحياناً – الموروثات المجتمعية والقبلية والسياسة الحزبية أو جغرافيا المكان.
إن من حقائق الحياة التي نجهلها، هو أن كل إنسان يولد ومعه قلمه، "ن والقلم وما يسطرون"! أحياناً ننسى أن لهذا القلم وجهين؛ واحد للتسجيل نضيف فيها مع السنين صفحات من الخبرة والمعرفة إلى حياتنا، وآخر للشطب!! نمسح بها بعضاً مما توارثناه من المسلَّمات والصور النمطية والأحكام المسبقة، وكلما زادت مثل هذه المسلَّمات، قل استعمال العقل، والعكس صحيح، إذن مع تنامي العقل والتجربة تظهر ملامح الحكمة والاتزان في شخصية كل واحد منَّا.. يسألني البعض كيف زوجت ابنتي لرجل تركي؟ أو كيف قبلت بتزويج الأخرى لرجل هندي؟ والهند حسب ما نسمع وطن لمئات الديانات والأعراق، لكن حين تزور الهند تجد بلداً يتطور صناعياً بشكل متسارع، كما أنه مرشح أن يكون ثالث أعظم اقتصاديات العالم خلال السنوات العشر القادمة، وأن نسيجه الاجتماعي يتمتع بانسجام وتعايش وحياة ديمقراطية يحترمها الجميع.. وعندما يسألني البعض عن الدافع وراء هذه الشجاعة في مثل هذه القرارات؟ أجيبهم: أولاً؛ أنا أناسب أبناء دولٍ عرفتها وتنقلت في ربوعها وأهلها مسلمون، كما أنني صاهرت شعوباً وحضارات لها تاريخ وأمجاد، وسيكون فيها أبنائي وأحفادي عزوة لي ولبلدي.. وأنا أفكر - أيضاً - في تزويج ابني عز الدين؛ الذي يحمل الجنسية الأمريكية، بامرأة صينية أو روسية! لنصل بقضيتنا التي تعاني من الهجر والنسيان إلى مشارق الأرض ومغاربها. وكما تعلمون فإن هناك معايير قيمية تعارف عليها البشر، فإذا ما تحققت فثمَّ وجه الله.
أتذكر أن هناك من جاءني من الأصدقاء ونساء الحي ليقول لي: "بالك يا دكتور بتشوفناش عريس لبناتنا مثل عرسان بناتك"، فأبتسم قائلاً: "كل شيء قسمة ونصيب".
الاغتراب والتجدد وسؤال الاختلاف!!
من لم يسافر يجهل العالم أكثر مما يعرفه، والإعلام برغم فضائه الواسع إلا أنه لا يعبر بشكلٍ كافٍ عن الحقيقة، فنحن في قطاع غزة، حيث لا حرية للتنقل والسفر، نعاني من مشهد انسداد الأفق، والتحامل والشك بالآخر؛ بغض النظر عن هويته وديانته ومواقفه وسياساته، فمن لم يزر أمريكا، لا يمكن أن يلمس طيبة وجمال الشعب الأمريكي، الذي عشتُ بينه واختلطت فيه لأكثر من ثمانية عشر عاماً، وهذا الشعب لا يعلم حقيقة الكثيرَ عنا وعن أحوالنا..
كان الواحد فينا لا يري في هذا الكون الفسيح من الشعوب والأمم والحضارات إلا غزة، بجغرافيتها التي تغيب عن خرائط الدول!! ويعتقد أنها محور الكون ونقطة الارتكاز الأممي، فإذا ما اختل توازنها فقد العالم مقومات أمنة واستقراره!! في الحقيقة، عندما تركت قطاع غزة في مطلع الثمانينيات، وشرعت في رحلة الغربة والبحث عن الذات، لم أجد بلادي على خريطة الآخر!! هذا "الآخر" الذي كانت نظرتنا عدميَّة تجاهه، وربما لم يكن له حضور أصلاً فيها!!
السؤال الذي كنت دائماً أطرحه على نفسي وأناقشه مع الآخرين: إذا كنا في هذا العالم نبحث عن التعايش، فلماذا نخشى ونتوجس من الاختلاف؟! لقد أرادنا من خلقنا أن نكون مختلفين، "ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"؛ لأن الاختلاف يفتح الباب للتدافع والابداع والتنافس الحضاري، ولذلك دعانا سبحانه وتعالى للتعارف: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"..
كان من المتوقع والطبيعي في بداية ترحالي أن تكون نظرتي للآخر؛ سواء المسيحي أو اليهودي، تشوبها الكثير من الشكوك والاتهامات، وتوجيه الإدانات والتوصيفات النمطية السلبية، لكني كنت - دائماً - أستخدم الممحاة، وأستبدل التنميط بالحقيقة، والمبالغة بالواقع، والصورة الإعلامية بالحياة اليومية.
إن عملية التغيير لمشهد "الآخر" لن تتحقق بدون تعاملات ومواقف وممارسات سلوكية على الأرض، وهذه تتطلب التنقل والاحتكاك بشكل مباشر مع هذا "الآخر"، الذي صنعت رؤيتنا له قراءات ظنيِّة وأساطير دينية، وأشكال من الدعايات والصور النمطية، جعلت الواحد منا أسيراً لثقافة القبيلة، وما تمنحه التفسيرات الدينية لمسألة الخيرية والاختيار لشعب أو أمة على المستوى الإنساني.
أحداث 11 سبتمبر في أمريكا: الكارثة واكتشاف الآخر
بعد الأحداث المأساوية في الحادي عشر من سبتمبر 2001، أصيب الأمريكان بالصدمة والذهول، وانتابنا نحن العرب والمسلمين الكثير من الخوف والفزع، خاصة بعدما بدأ الإعلام في تسويق حملات التحريض ضد الإسلام والمسلمين (Islamophobia)، واتهام الإسلام كدين بأنه يغذي الغلو والتطرف والإرهاب!!
أتذكر جيداً تلك اللحظة التي جاءت فيها زميلتي في العمل بروفيسور "لورا دريك"؛ وهي أستاذة علوم سياسية بالجامعة الأمريكية في واشنطن، لتقول لي: "د. يوسف لقد هُدم كل ما بنيتموه خلال عشرين عاماً، وعليكم الآن أن تبدؤا من الصفر"!!
في تلك الأوقات العصيبة التي مرت بجاليتنا المسلمة، بدأت اكتشف الجانب الإنساني والقيمي عند الآخرين، حيث تعرضنا كأقلية مسلمة لكل ما يبعث على التوجس والقلق، دفع البعض لسرعة الهجرة إلى كندا أو العودة إلى بلادهم الأصلية.. وبرغم هستيريا الفزع الذي أصابنا، إلا أننا اكتشفنا أن هناك الكثير من الخير في الآخر؛ المسيحي واليهودي والبوذي؛ هؤلاء الذين كنا نتحاشى التعامل معهم إلا في دائرة الاضطرار والضرورة؛ باعتبار أنهم "كفار- Infidels"، ولا رجاء فيهم!! ولكننا وجدنا بينهم - وسط تلك المحنة التي ألمت بنا - من يقف إلى جانبنا، ويهدئ من روع مخاوفنا.. في الحقيقة، لقد جاء من بين هؤلاء من يقول لك: "أبواب بيتي مفتوحة إليك، إذا كنت تخشى من الاعتداء عليك؛ لأنك مسلم".. كنائس وكُنس وأكاديميون ومفكرون وقفوا يذودون عنا، ومنظمات حقوقية تطالب الإدارة والكونجرس والأجهزة الأمنية باحترام الحقوق المدنية للأقليات، وذلك في مشهد مغاير لما كنا نعتقده، حيث اكتشفنا أن في كل إنسان منظومة قيمية تحكم سلوكه، بغض النظر عن ديانته أو خلفيته العرقية والثقافية.
لقد أعادت لي هذه المواقف الداعمة لجاليتنا المسلمة الهدوء والطمأنينة، وأصبحت كمن رضع لبن سِباع.. وشعرت ربما للمرة الأولى بأننا في بلد فيه تقديس للقانون، واحترام لحرية المواطن وكرامته؛ فكل إنسان فيه بريء حتى تثبت إدانته.
وفي سياق الدفاع عن وجودنا كمسلمين في أمريكا، أصدرت كتابين باللغة الإنجليزية، واحتجت إلى بعض الأصدقاء من اليهود والمسيحيين - غير المتصهينين - لكتابة تقديم لهما، كي أحمي نفسي وقلمي من سيف الاتهام بمعادة السامية.
لقد اكتشفت أن الإنسانية في مفهومها القيمي لها سقف من الفضائل يتسامى فوق كل الاعتبارات.. والضمير الحي في جوهره ليس مرتبطاً بالهوية الدينية أو العرقية، بل بكونك إنساناً تكاملت بداخلك قيمة الآخر، فنشأت بذلك تلك المشاعر العابرة للأنا والمتجاوزة للذات.. إذ لا يهم بعد ذلك الانتماء، فأنت إنسان ستفرض حضورك، وتنال ما تطلبه من التقدير والاستحسان.
حقيقة تعلمناها: رأي المرء على قدر تجربته
لقد كانت رحلتنا باتجاه "الآخر" هي إعادة بناء للعقل، وهندسة طريقته في قراءة الأشياء والحكم عليها.. لم تكن المحطات التي توقفت فيها بغرض الدراسة أو العمل إلا إضافات معرفية، أخرجتني من نفق لم أشاهد داخله لعقدين من الزمن غير أهلي وبعض بيوت الجوار، إلى فضاء كانت مساحات الرؤية فيه تجعل مني "خلقاً آخر"، وبطاقة استيعابية - ربما - تتجاوز كل ما كان لدينا في مخيم الطفولة من أدمغة وعقول.
إن من المشاهد التي رسَّخت لديَّ القناعة بإمكانيات التعايش بين البشر رغم كل الاختلافات، هي بعض البلدان التي زرتها في أوروبا... فسويسرا مثلا حين زرتها في عام 1998، رأيت بعيني طبيعة الاختلافات الدينية والعرقية واللغوية هناك، ومع ذلك نجح هؤلاء في بناء دولة يحكمها نظام سياسي فيدرالي جعل منها ربما أهم كيان يتمتع بالأمن والاستقرار والازدهار في أوروبا، ومثلها هولندا وبلجيكا.
وفي عام 2006، قمت بزيارة إلى مدينة بلفاست عاصمة إيرلندا الشمالية، للتعرف على أوجه التعايش والأمن والاستقرار التي سادت المدينة بعد عقود طويلة من العنف والاضطراب السياسي، وكيف تمكن سكان البلاد بعد صراعات دامية على خلفيات دينية وعرقية من إيجاد طريقة لبناء نظام سياسي ديمقراطي يتعايش في كنفه الجميع، بالرغم مما بينهم من اختلافات وتباينات واسعة ذات علاقة بالدين والعرق.
لقد ساعدتني غربتي الطويلة، وتنقلي في الكثير من البلدان العربية والآسيوية والأوروبية، إضافة لسنوات دراستي وعملي في أمريكا، وخاصة في العاصمة واشنطن، اكتساب الكثير من المعارف والثروات الفكرية، والادراك والقناعة بأن الإنسان كرؤية وفكر قابلٌ للتجدد والتغيير، وأن الأمن والاستقرار والازدهار لكي يسود بين الشعوب والأمم يحتاج إلى عقليات تؤمن بأن ذاك "الآخر" هو الوجه الحقيقي الآخر لـ"الأنا".
الوطن بين الغربة والحنين: وصار الحلم هو الخيمة
بصراحة، وفي لحظة من تجليات التأمل، قررت العودة للوطن، بعدما نازعتني إليه في سنوات الغربة الطويلة نفسي، واستبد بي الشوق والحنين إلى الأهل والمخيم.. وإلى أبي الذي رحل عن هذه الدنيا وأنا في غربتي، ولم أتمكن بسبب الاحتلال من إلقاء نظرة الوداع عليه، والمشاركة في جنازته.. لحظة كلما تذكرتها غلبتني دموعي، وأنا أنثر على قبره ورود تلك الشهادات والألقاب والشهرة، قائلاً: يا أبتي.. نم قرير العين، فهذا ولدك أحمد؛ طفلك المدلل، الذي ضحيت براحتك من أجل أن يتعلم، قد عاد إليك بالحلم الذي انتظرته طويلاً، محققاً لك ولوطنه كل ما تمنيت أو يزيد.
نعم؛ عدت من غربتي الطويلة إلى بلادي الحبيبة، بعدما شعرت أن بداخلي إنساناً يمتلك البوصلة والرشاد، وأنه سيكون بفكره وسلوكه وقلمه صانعَ سلام، ومصدرَ إلهامٍ، ومنارةً للآخرين.