الكاتب: سعيد أبو غـــزة
عمل روائي سردي من أبرز سماته هو معايشته تلك المرحلة الزمنية 1987، والتوغل في ما وراء معاناة المخيم خلال انتفاضة الحجر. رواية تتجلى فيها العناصر الاجتماعية والاقتصادية والوطنية التي شكلت الوعي والمأساة لتلك الحقبة من الزمن القريب.
يُقدم الكاتب الثائر ابن المخيم "يسري الغول" روايته الأولى بعد مجموعات قصصية متعددة زاهية الألوان الأدبية، بشكل لا يختلف عن شخصيته الأدبية المعتادة، بل يقدم نفسه كما يجب أن يكون ككاتب جريء مُلتهب الأحاسيس وقدراته الإبداعية التي تشكلت لديه من شدة الألم في أزقة المخيم؛ فوهبته القدرة الإبداعية في السرد القصصي الأنيق.
كعادته يأخذك الكاتب حيث هو، إلى يسري الإنسان الشغوف بالمخيم والوطن، يملأ صدرك بزاد أدبي ثري الكلمات ويبعث داخل روحك قوة لا تنتهي بانتهاء الرواية، يأخذك حيث المخيم وحياته المليئة بالشقاء والبكاء، ينتقل معك ليتلمس عرق سُمرة الجباه لآبائنا في العمل داخل فلسطين المحتلة، وصولا لانتفاضة الحجارة، مرورا بالأكواب الفارغة الممتلئة حقد وقتل وشهوة داخل ما تسمى تل أبيب.
استخدم الكاتب قوته الداخلية المنتفضة في صدره بجانب تمكنه الثقافي الكبير ومعاصرته للحقبة الزمنية للرواية فتلمس روح مملوءة برؤية للحياة استطاع بأدواته وبأدبه الجمّ الولوغ في المنطقة المحرمة من الكتابة أو التذكر ولم يخدش الحياء العام المجتمعي للقارئ بذكاء ملفت لنظر القارئ.
ما أن تبدأ بالقراءة حتى ترفع القبعة للكاتب لإهدائه الرواية منفرد لأيقونة الرواية الفلسطينية الأستاذ "غريب عسقلاني" ومن ثمَّ لن تستطيع مقاومتها حتى تلتهمها وصولاً ما بعد النهايات التي لا تنتهي عند الورقة الأخيرة، تمر خلال الورق عبر شريط من الذكريات الذي يستجلب قرائح الذاكرة المنسية فتثير الغبار عن ثلاثين عاماً من دفن الأسرار في صحراء باتت مُمتلئة بأحداث أكثر عمقاً وأقوي سرية.
الكاتب أبدع في استخدام شخوص الرواية في حبكة تاريخية داخل ساعة مُعلقة على جدار بين غزة وتل أبيب المحتلة فتخالها ساعة عملاقة تعانق السماء. الرواية عبارة عن مجموعة من القصص التي يُبدع الكاتب في حياكتها بشغف الألوان ذات موضوع رئيسي مترابط داخل لوحة فنية بطول 87 مترا، مجموعة من القصص شكلت حالة روائية شيقة يجب أن تُصنف كقطعة أدبية ثرية ضمن أدبيات الانتفاضة.
خلال القراءة تتشبع روحك وذاكرتك بوجبة دسمة من التاريخ القريب بلغة أدبية من خلال كاتب يمتلك مهارات الجانب المناضل ابن المخيم، حيث كنت أعرف أين أجده بالضبط مختبئاً خلف الكلمات التي يرسم ثناياها ذات المعنى الواضح. رواية "غزة 87 " هي الملامح الثلاثية التي غيرت مجريات القضية الوطنية والمجتمعية إلى حالة أكثر التهاب بل الذهاب لمرحلة "غزة تخفي وجهها بالكوفية".
استطاع الكاتب بذكاء الحبكة والسرد الروائي من تبسيط الحالة الفلسطينية، ومن وصف الحالة الاجتماعية والاقتصادية للمخيم وللعمال الفلسطينيين العاملون آنذاك في الداخل الفلسطيني المحتل، وهنا نسجل أن الكاتب كان جريئاً في فض غشاء البكارة المرقع للأسرار الدفينة وكذلك تسليط بقعة ضوء عن المسكوت عنه داخل إسرائيل من صراعات بين اليهود الشرقيين والغربيين وكذلك الفلاشا بجانب خفايا الموساد القذرة في أدبنا الفلسطيني الذي تلتقطه أيادي وعقول شباب الفضاء الخارجي "شباب 2017"، بل استطاع بلغته الفنية السلسة من الوصول لمجموعة غير قليلة من صور يوميات الانتفاضة الفلسطينية مصاحباً ذلك بجرعات متتالية من الإبداع السردي للأحداث التي تستفز الذاكرة نحو الرجوع للخلف لاسترداد الصور الفرعية بكل جوارحك كقارئ لتكتمل الصورة بعمق ووضوح.
في النهاية هي رواية ابن المخيم الثائر الرومانسي الذي أضرمت رقة الكلمات في قلبه نيران جعلت أنامله تعتاد الكتابة الرومانسية في أي صورة من صور الكتابة الأدبية، حينما تقرأ الرواية لن تنام ليلتك دون إكمالها بشغف ونهمّ، رواية تفوح من بين أوراقها روح الكاتبة المعبقة بأزقة المخيم والوطن المنغرس في الروح فيأخذك معه هناك حيث يريد إلى مخيم الشاطئ.