يقبع سيف الإسلام القذافي في سجن بمدينة الزنتان في غرب ليبيا ينتظر مصيره بعد اتهامات تصل عقوبتها إلى الإعدام مرتبطة بتورطه المزعوم في جرائم حرب على خلفية مشاركته في قمع ثورة «17 فبراير» التي قامت ضد نظام والده معمر القذافي عام 2011.
اعتقل ثوار الزنتان سيف في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 في جنوب ليبيا فيما كان يحاول الفرار، بعد أسابيع فقط من اعتقال رفاقهم ثوار مصراتة والده معمر في مدينة سرت وقتله بعد التنكيل به. لم تبدأ محاكمة سيف الإسلام حتى الآن، في حين اختلف ثوار الزنتان مع ثوار مصراتة، وانقسمت ليبيا إلى إقطاعات قبلية ومناطقية تتنافس على «اقتسام الكعكة».
في ظل هذا الانقسام الذي يزداد دموية وتعقيداً، خصوصاً بعد دخول تنظيم «الدولة الإسلامية» على الخط، باتت محاكمة سيف القذافي أمراً ثانوياً لكثير من الليبيين المهتمين أكثر بمصير بلدهم واحتمالات تشظيه وبتأمين لقمة عيشهم.
لكن، من هو سيف الإسلام حقاً؟ هل هو فعلاً مجرم الحرب الذي يتحدث عنه «الثوار»، أم أنه ذلك «الإصلاحي» الذي حاول –وفشل– في تغيير «جماهيرية» والده… ووراثته، فانتهى الابن سجيناً والأب قتيلاً؟
تولى الجواب على السؤال الدكتور محمد عبدالمطلب الهوني، المعارض اليساري السابق (عاد إلى ليبيا عام 1984) الذي عمل طوال 12 عاماً مساعداً مقرباً لسيف في إطار مهمة تحضيره لـ «استخلاف» والده. لا يخفي الهوني هذه الحقيقة في كتابه «سيف القذافي– مكر السياسة وسخرية الأقدار» (دار مدارك للنشر)، بل يكشف منذ البداية عن أنه انضم إلى فريق سيف، بناء على طلب عديل العقيد القذافي رئيس الاستخبارات العسكرية السابق عبدالله السنوسي القابع بدوره في سجن ليبي بمدينة مصراتة (شرق طرابلس).
يقول: «تكلمت مع عبدالله السنوسي مراراً عن إمكان وقوع فراغ في ليبيا قد يدمر الوطن إن غاب معمر القذافي لأي سبب في الأسباب في بلاد ليس لها دستور ولا مؤسسات ولا جيش يمكن أن يسد الفراغ، وتوافقنا على أن يكون سيف الإسلام هو الشخص الذي يمكن أن يقي البلاد الكارثة». لكنه يضيف: «يجب أن أقر بأن رحلتي في قافلة ترميم النظام ومحاولتي مع آخرين درء الكارثة، انتهت قبل بلوغ محطتها الأخيرة، وإني اعترف بهذا الإخفاق المروع، فقد كانت هزيمة بحجم وطن».
يقدم الهوني في صفحات كتابه سرداً مفصلاً عن شخصية سيف، بحسناته وسيئاته، غارقاً في تفاصيل صراعاته مع إخوته، ووالده، وقبيلته (القذاذفة)، ومع اللجان الثورية التي وقفت سداً منيعاً في وجه برنامجه الإصلاحي المعروف بـ «ليبيا الغد»، كما يقدّم معلومات، ربما للمرة الأولى، عن اتصالات سيف مع التيارات الإسلامية، ورهانه على إشراكهم في الحكم، بما في ذلك محاولة الاستعانة بمرشد جماعة «الإخوان المسلمين» الليبية وجلبه من منفاه السويسري وتكليفه قيادة الحكومة الليبية. لم يترك رهان سيف على الإسلاميين ارتياحاً لدى كثيرين من أركان حكم القذافي الأب، وبعضهم يتشكك أصلاً في النيات الحقيقية للإسلاميين الذين دأب النظام على وصفهم بـ «الزنادقة».
ولا شك في أن بعض هذه المعلومات عن علاقة سيف بالإسلاميين كان معروفاً على نطاق واسع، لكن أهمية كشف تفاصيلها الآن تكمن في أنها ترِدُ على لسان الهوني نفسه، وفي أحيان كثيرة نقلاً عن سيف بالتحديد.
«معركة كسر عظم»
يروي الهوني في كتابه البدايات الأولى لمحاولات الإصلاح التي قام بها سيف داخل «جماهيرية» والده، قائلاً إن تحركاً بدأ في العام 1999 من خلال «مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية» وكان الهدف تحسين أوضاع المساجين، وهو أمر حاولت الأجهزة الأمنية لوالده عرقلته. ويشرح: «قال لي سيف مرة إن هذه الأجهزة لا تريد تحسين ظروف السجناء، وبالأخص زيارة ذويهم، لأن من شأن ذلك أن يكشف الأعداد الكبيرة من السجناء الذين قُتِلوا في سنة 1996 في ما يعرف بمذبحة بوسليم، فما كان من سيف إلا أن استغل بشكل ذكي هذا الحدث، وطفق يتحدث علانية عن مجزرة بوسليم، مطالباً بمعاقبة من قام بها، وأوصل الأمور إلى درجة الصدام مع تلك الأجهزة، حتى يحصل على الحد الأدنى، وهو تحسين ظروف السجناء».
ويؤكد الهوني أن سيف نجح خلال سنوات في «إخلاء السجون الليبية بالكامل من سجناء الرأي (…)، ولم يكن ذلك الأمر نزهة، فقد صارع سيف الإسلام من أجل ذلك كل أركان النظام، من حركة اللجان الثورية، إلى قادة الأمن الداخلي، إلى المسؤولين في الأمن الخارجي، ومن يومها بدأت معركة كسر العظم بينه وبين هؤلاء».
ويكشف تفاصيل دقيقة عن نوع العلاقة التي ربطت سيف بقبيلته: «كان سيف يحتقر مؤسسة القبيلة عموماً، وكان لا يحب الارتباط حتى بعلاقة صداقة مع أحد من قبيلته (القذاذفة)»، شارحاً أن جزءاً من هذا الاحتقار يعود إلى استغلال أفراد من القذاذفة الدولة الليبية من أجل «نهب المال العام»، ويلفت في هذا الإطار إلى أن تنامي نفوذ القذاذفة في حكم معمر جاء عقب محاولة الانقلاب التي قام بها عمر المحيشي سنة 1975، ما دفع بالقذافي الأب إلى الاعتماد على قبيلته للتحكم بمفاصل الجيش خشية قيامه بالانقلاب عليه. لكن احتقار سيف قبيلته، كما يضيف الهوني، كان مرتبطاً بعوامل قديمة، منها تأثره بما كان يخبره به والده معمر عن مواقف أبناء عمومته وإساءتهم إلى جده محمد أبو منيار «بسبب فقره وقلة حيلته»، كما قال القذافي الأب لسيف. ويؤكد الهوني «أن إظهار سيف العداء والاحتقار لأفراد القبيلة... كان السبب الرئيسي في التفافهم حول أخيه المعتصم، وحتى في أحلك الظروف التي مر بها النظام إبان الثورة عليه، كان ذلك الصراع مستمراً داخل الأسرة والقبيلة بين سيف والمعتصم»، علماً أن الأخير نجح في إقناع والده بمنحه منصب مسؤول «الأمن القومي» وبقي معه حتى الأيام الأخيرة من الثورة، حيث قبض عليهما في سرت وقُتلا معاً.
ويغوص الهوني في تفاصيل الإصلاحات التي حاول سيف إدخالها على نظام الحكم، وتحديداً من خلال الدفع بالراحل شكري غانم لتولي عجلة «الإصلاح الاقتصادي» من داخل الحكومة، لكنه يضيف: «كنت والدكتور غانم على اتصال دائم، وكنا ننسق المواقف، في محاولة يائسة لدفع عجلة الإصلاح، لذلك اقترحنا على سيف أحد أمرين: إما أن يشكل هو شخصياً حكومة إصلاح ويترأسها، وتبين لنا بعد ذلك أن هذا الأمر غير ممكن لأن معمر القذافي يرفض أن يكون هو أو أحد أبنائه عرضةً للمساءلة في مؤتمر الشعب العام، وإما أن يدخل بنفسه عش الدبابير ويتحكم فيه من الداخل ويغذيه بدماء جديدة من الشباب المؤمن بالإصلاح، ونقصد بذلك مكتب الاتصال بحركة اللجان الثورية. ورفض سيف الاقتراح الأخير، لأنه كان يقول إنه يرفض تدنيس اسمه بحركة مسؤولة عن قتل الليبيين وتعذيبهم وتخريب الاقتصاد وامتهان الإرهاب».
ويتحدث الهوني عن «الصراع داخل الأسرة» قائلاً إن سيف عندما دخل «معترك السياسة» وجد أن شقيقه الساعدي الذي يصغره بسنة، ومحمداً أخاه الأكبر من أبيه «دخلا الحياة العامة من باب الرياضة، وكانا يتصارعان من خلال أكبر ناديين لكرة القدم، الأهلي والاتحاد، وقد حولا الناديين إلى شبه حزبين متنافسين (…) واستولى الساعدي على ممتلكات عامة وعقارات من الأوقاف، ولم يحرك والده ساكناً (…) أما محمد فلم يكن مشاغباً، لكنه استولى أيضاً على مصلحة البريد والهاتف، وأدارها كأنها ملكه الخاص، وعندما اضطر إلى التنازل عنها بضغط من سيف الإسلام، رتبت معه صفقة تجارية، وأخذ أموالاً حتى يتنازل عن المصلحة». ويؤكد الهوني أن سيف حاول التصدي لـ «انحرافات» إخوته، لكنْ «اتسع الرقع على الراقع، وكبر بقية الإخوة وأصبح كل منهم يريد حصة من الكعكة».
ويوضح أن المعتصم كان ضابطاً طبيباً استقطبه بعض أفراد «مكتب اللجان الثورية وبعض المتنفذين في قبيلة القذاذفة، وجعلوا منه واجهة للصراع مع سيف». ويقول: الفارق بين المعتصم وبقية إخوته هو أن المعتصم يريد أن يكون الخليفة لأبيه بدلاً من سيف، أما الآخرون فيريدون المال، وكانوا يتهافتون عليه، لذلك عندما اندلعت الثورة، رأى فيها المعتصم الفرصة السانحة للانقضاض على سيف الإسلام باتهامه بأنه سبب هذه الثورة وكل البلاء الذي حل بليبيا».
خيار سيف الخاطئ
يقول الهوني إن سيف أخطأ في الخيار الذي تبناه عندما اندلعت ثورة 17 فبراير فدفع ثمن موقفه، حين رفض نصائح كان هو أحد الذين قدموها إليه. يقول إنه سمع سيف شخصياً في أول أيام الثورة في بنغازي يتحدث على الهاتف ويحذّر الذي يتكلم معه من مغبة إطلاق الرصاص على المحتجين، قائلاً إنه «سيشنق» من يفعل ذلك، كما ينقل عنه تحسره على الضحايا الذين سقطوا في مدينة البيضاء في أول أيام «ثورة فبراير»، قائلاً إن أخواله قتلوا أعمامه، في إشارة إلى أن قبيلة والدته صفية (قبيلة البراعصة) في البيضاء قتلوا حوالى 100 من أبناء القذاذفة الذين أرسلوا للتظاهر إلى جانب النظام في مواجهة الثائرين ضده. ويوضح الهوني: «كان أمام سيف الإسلام عندما بدأت الثورة في الشرق الليبي والتململ في مغربها، الخيار بين أربعة مواقف: إما أن يذهب إلى بنغازي ويقود التظاهرات المعارضة ويستجيب مطالب الناس حتى يتمكن من احتوائها، وإما أن يلقي خطاباً... ويبدأ في تحقيق الإصلاح الحقيقي ويشكل حكومة من الشباب يكون هو على رأسها، أو أن يترك البلاد غاضباً وإن لم يعلن ذلك، فيكون ذلك الحل الوسط الوطني والإقليمي والدولي الذي سيلجأ إليه الجميع في لحظة معينة، وإما أن يعتمد الخيار الأسوأ الذي اختاره في 20 شباط (فبراير) 2011 بانحيازه إلى النظام في مواجهة المنتفضين. إن خطاب سيف الإسلام في تلك الليلة، وتحدّيه للجماهير الغاضبة، وتهديده ووعيده للشعب، كان أكبر نفخة في جذوة الانتفاضة، أذكتها وحوّلتها ثورة عارمة».
يحوي الكتاب تفاصيل كثيرة عن علاقة سيف بوالده وكيف حاول الأخير إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتزويج ابنته لسيف، وعن علاقة القيادة الليبية آنذاك بالمسؤولين القطريين الذين يقول إنهم شاركوا في إقناع سيف بخيار الإسلاميين. كما يروي قصة الأيام الأخيرة التي قضاها سيف في طرابلس وبني وليد قبل فراره منها وتعرضه لغارة شنها طيران «الناتو» فأصيب وبُترت أصابع يده اليمنى، إلى أن اعتقله الثوار في جنوب ليبيا ونقلوه إلى الزنتان.
ويتضمن الكتاب أيضاً ما يشبه النبوءة عن واقع ليبيا اليوم، إذ يقول الهوني: «قال لي سيف الإسلام ذات مرة: إن والده قد فصّل ليبيا على مقاسه، وإنها سوف تنتهي بنهايته». ربما يجب أن يسمع الليبيون ذلك خشية أن يتحوّل توقُّع سيف حقيقة