"حماس" واستنساخ تجربة "حزب الله"

thumbgen (25).jpg
حجم الخط

 

منذ توقيع الاتفاق «الفتحاوي»- «الحمساوي» (12/10) في القاهرة، بدا أن ثمة قضيتين أساسيتين، لا يمكن المضي في المصالحة الوطنية، واستعادة وحدة الكيان الفلسطيني، وإعادة تفعيل منظمة التحرير، من دونهما. الأولى، تتعلق باستيعاب الموظفين الـ40 ألفاً، الذين كانت وظّفتهم «حماس» في سلطتها في غزة (منذ عام 2007)، باعتمادهم ضمن دوائر ومرتبات السلطة. والثانية، تتعلق بطلب «حماس» الحفاظ على سلاح المقاومة، والإبقاء على «كتائب عز الدين القسام» التابعة لها، على وضعها الراهن، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات سياسية وأمنية وقانونية.

وكان العديد من قادة «حماس» أدلوا مؤخّراً بتصريحات واضحة تؤكد استعداد حركتهم للتنازل عن كل شيء، أي عن الحكومة والسيطرة على المعابر والاقتطاعات الضريبية، بل وتمكين حكومة «الوفاق الوطني» من السلطة في غزة، إلا أنهم اعتبروا قضيتي الموظفين وسلاح المقاومة، حصراً، بمثابة خط أحمر، لا يمكن التنازل عنه في أي حال من الأحوال.

الآن، في النقاش الدائر، بين المعنيين، من هاتين القضيتين، يمكننا ملاحظة أن المشكلة لدى «فتح» و «حماس» تكمن في سيادة العقلية الفصائلية بدلاً من العقلية الوطنية، والحسابات الآنية بدلاً من الحسابات المستقبلية، واعتبارات السلطة أكثر من اعتبارات التحرر الوطني، ومراعاة كل واحدة منهما واقعها بدلاً من مراعاتها المصلحة العامة.

مثلاً، في المسألة المتعلقة باستيعاب الموظفين، يمكن القيادة الفلسطينية أن تتعامل معهم باعتبارهم جزءاً من الشعب الفلسطيني، ويستحقون العيش الكريم (والرواتب)، ومحاولة إيجاد حل لهذه المشكلة وفقاً لهذا المنظور. بيد أن هذا الأمر يتطلب في المقابل، من «حماس»، أيضاً، أن تنتبه إلى أن ثمة أكثر من هؤلاء، من الموظفين السابقين (نحو60 ألفاً)، الذين كانت أزاحتهم من وظائفهم لدى وجودها في السلطة لعشرة أعوام، وهؤلاء أيضاً جزء من الشعب الفلسطيني، ومن غزة المحاصرة، ويستحقون العيش الكريم. ثم ماذا بخصوص عشرات آلاف الشباب من فلسطينيي غزة، من غير المحسوبين على «حماس» (ولا على «فتح»)، ينبغي لأحد ما أن يكون مسؤولاً عن أوضاعهم؟ وطبعاً لا نريد أن نزيد على ذلك بطرح مسألة وجود عشرات آلاف الفلسطينيين الشباب في لبنان وسورية، ممن دفعوا باهظاً ثمن التجربة الوطنية الفلسطينية، يكابدون الأمرين، ويعيشون مأساة خاصة، وهؤلاء يحتاجون كغـــيرهم إلى موارد تمكنهم من الحد الأدنى من العيش.

فوق ما تقدم ثمة سؤال أساسي يوجّه إلى «حماس»، مفاده: كيف يمكن مطالبة السلطة باستيعاب هذا العدد من الموظفين، وتأمين رواتب لهم علماً أن جزءاً كبيراً من تمويل موازنة السلطة، ورواتب منتسبيها (نحو200 ألف في السلكين الأمني والمدني، يأتي مما يسمى الدول المانحة، أو الداعمة للسلام، وهي الولايات المتحدة (400 مليون دولار سنوياً) وكندا وأستراليا والاتحاد الأوروبي ودول خليجية؟ فكيف يستقيم هذا وذاك؟ وهل يمكن السلطة أن تضمن رواتب من هذه الدول لكتائب مقاومة؟ وطبعاً فإن تلك التساؤلات لا تقلل من شرعية مطلب «حماس» ولكنها تضع مطلبها في إطار الفحص والجدوى وتبين تناقضاته، إذ لا يمكن القيادة الفلسطينية، بغض النظر عن رأينا في سياساتها وخياراتها، أن تأتي بموارد لتدعم كتائب مقاومة، بغض النظر عن رأينا في مشروعية ذلك أو جدواه.

أما في ما يخص المسألة الثانية، أي سلاح المقاومة، و «كتائب القسام»، فيفترض في «حماس»، عند طرح شرطها أو موقفها، أن توضح لشعبها كيف ستستخدم سلاحها في غزة؟ أو ما هي إستراتيجيتها للكفاح المسلح؟ أو ما هي رؤيتها للقطاع؟ ثم هل يتحمل القطاع أياً من ذلك مع معرفتنا بظروف مليوني فلسطيني في الحصار والحروب المدمرة، خلال الأعوام العشرة الماضية؟ وهل أثبت السلاح الفلسطيني جدواه في إنهاء الحصار، وردع إسرائيل، وفتح معبر رفح (مع مصر)؟ أخيراً من الذي قال إن تجربة «حزب الله» الذي تكشف عن ميليشيا طائفية وذراع إقليمية لإيران الولي الفقيه هي تجربة تحتذى؟ وأين هي هذه المقاومة منذ عام ٢٠٠٠ او ٢٠٠٦؟ ومن قال إن الفلسطينيين في غزة الذين يعيشون في بؤس الحصار والتجويع وندرة فرص العمل والموارد، ومع حرمانهم من المشاركة في تقرير مصيرهم مستعدون لاحتضان هكذا تجربة سلطوية وتابعة للخارج؟

في مقابل كل ذلك ألا يجب أن تكون ثمة رؤية وطنية فلسطينية مسؤولة لمكانة غزة، ولدور مليوني شخص فيها، في العملية الوطنية الفلسطينية، تتناسب مع أحوالهم وإمكانياتهم؟

هكذا، ووفقاً لهذين الشرطين، يبدو أن مصير اتفاق المصالحة الفلسطينية، أو «الفتحاوية»- «الحمساوية»، الموقّع في القاهرة (12/10)، لن يكون أفضل من مصير غيره من الاتفاقات التي تم عقدها في الأعوام العشرة الماضية، في مكة (2007) وصنعاء (2008) والقاهرة (2008 و2009 و2010 و2011) والدوحة (2012) والشاطئ (2014)، وهي الفترة التي هيمنت فيها «حماس» على غزة، في شكل أحادي وإقصائي، من دون أن تستطيع تقديم نموذج أفضل من سلطة «فتح» في الضفة، ومن دون أن تتمكّن من شقّ طريق معيّن، أو أكثر مناسبة، لمقاومة إسرائيل، على النحو الذي أرادته أو ادّعته، ومن دون أن تعزّز مكانتها في إطار العمل الفلسطيني. أكثر من ذلك، فإن تلك الفترة من حكم «حماس» غزة، نجم عنها فرض حصار مشدد على القطاع، والحد من تواصله مع الخارج، إضافة إلى شن إسرائيل ثلاث حروب دامية ومدمرة عليه، علماً أن الحديث يدور عن منطقة ضيقة (360 كلم مربع)، وتفتقر إلى الموارد، يعيش فيها نحو مليوني فلسطيني، غالبيتهم يفتقدون فرص العمل، ويكابدون عذابات الفقر والقهر وظروف الحصار.

بديهي أن من الظلم إلقاء المسؤولية عن كل ما جرى في تلك الأعوام، على عاتق «حماس» وحدها، إذ ثمة مسؤوليات أخرى تقع على عاتق المجتمع الدولي، وعلى إسرائيل التي تنتهج سياسة عدوانية وعنصرية ضد الفلسطينيين (بدليل سياساتها في الضفة)، كما ثمة مسؤولية تقع على عاتق القيادة الفلسطينية ذاتها، وهي هنا قيادة المنظمة والسلطة و «فتح»، بيد أن كل ذلك لا يعفي «حماس» من مسؤوليتها عن كل ماحصل، أو لا يقلل منها.

فإضافة إلى كل ما تقدم فإن مسؤولية «حماس» يمكن تحديدها في الجوانب الآتية:

أولاً: حكمها غزة بطريقة أحادية وإقصائية، إلى درجة أنها لم تشرك معها في إدارة السلطة في غزة أياً من الفصائل الحليفة لها، وهذا ينطبق حتى على «الجهاد الإسلامي»، أي أنها كانت سلطة إزاء شعبها وإزاء الفصائل أكثر من كونها حركة تحرر وطني.

ثانياً: محاولتها فرض وجهة نظرها كحركة إسلامية على المجتمع، علماً أن الحديث يدور عن مجتمع محافظ، ويخضع للحصار، ويكفيه ما فيه، أي أن الغزيين ما كانوا في حاجة إلى سلطات قهرية أخرى تتدخل في نمط عيشهم، ولباسهم، وسلوكاتهم الشخصية، ما يعني أن «حماس» هنا خلطت بين كونها حركة سياسية وحركة دينية، مثلما خلطت بين كونها حركة وطنية وحركة تنتمي إلى تيارات الإسلام السياسي.

ثالثاً: لم تستطع «حماس»، طوال فترة هيمنتها على غزة، أن تقدم رؤية وطنية مسؤولة لمكانة قطاع غزة في العملية الوطنية الفلسطينية، فهل هي تراه نموذجاً للكيان الوطني المنشود للفلسطينيين، من حيث الإدارة والتعليم والخدمات؟ أم تراه قاعدة تحرير ومقاومة؟

رابعاً: في الفترة الماضية ظلت «حماس»، في سلطتها في غزة، تراهن على الدعم الخارجي، أكثر بكثير من مراهنتها على إمكانات شعبها، بل إنها بنت إستراتيجيتها في منافسة أو مخاصمة «فتح»، في الإطار الفلسطيني، على الخارج أكثر مما بنته على مكانتها عند الفلسطينيين، في مجتمعاتهم داخل الأرض المحتلة وخارجها.

خامساً: تبعاً لما تقدم، فإن «حماس» لم تستخلص العبر المناسبة، لمراجعة طريقها أو خطاباتها، ونمط عملها وعلاقاتها في الساحة الفلسطينية، عندما وجدت نفسها في بيئة عربية وإقليمية مغايرة، بعد اختفاء البيئة الحاضنة لها، سيما انهيار حكم «الإخوان المسلمين» في مصر، ومحاولات عزل التيار الإسلامي. وعندما حاولت ذلك، متأخّرة، مع إصدار وثيقتها الجديدة، قبل أشهر، كان الوقت قد فات، على ما يبدو، إذ باتت في وضع ضعيف بالقياس بوضع «فتح» (الضعيفة أيضاً). والمعنى أن «حماس» أضاعت فرصاً سابقة أفضل، وأنه كان عليها أن تذهب إلى المصالحة، مثلاً، بعد اتفاق الشاطئ (2014) أو الدوحة (2012) أو القاهرة ( 2011)، لكن مشكلتها في ذلك الحين أنها كانت تضع رهاناتها على صعود التيار الإسلامي في الإقليم، محمولاً على رياح «الربيع العربي». ولعل هذا التأخر يفسر، إلى حد كبير، تراجعات «حماس» الدراماتيكية، على صعيد الخطابات، والتماثل مع الخطاب الفلسطيني السائد، وإعادة تموضعها في الإطار الإقليمي (إلى درجة طلب الانفتاح على إيران على رغم ما مثلته وما زالت)، ناهيك باستعدادها للتخلي عن السلطة، ولو ظاهرياً.

هكذا نحن على الأرجح إزاء اتفاق غير ناجز، ومن غير المتوقع المضي به، إلا في ظل معادلات سياسية غير متوقعة.

عن الحياة اللندنية