حصاد إلغاء الدور التنموي للدولة

على جرادات
حجم الخط


-خبر-كتب:على جردات
أن يتنقل التنافس بين القوى العظمى على مناطق النفوذ والسيطرة في العالم إلى حروب بالوكالة، تُستخدم فيها عصابات الإرهاب التكفيري في الوطن العربي وشمال أفريقيا، وقوى اليمين القومي بما فيها "الفاشية الجديدة" في أوكرانيا، بينما ترفع واشنطن تحرشاتها بالصين من خلال المناورات العسكرية في "الشرق الأقصى"، ذلك يعني العودة إلى "الحرب الباردة" التي عرفها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وحال توازن القوى و"نظام ثنائية القطبية" دون تصعيدها إلى حرب مباشرة "ساخنة" بين القوى العظمى، فيما يخيم شبح وقوعها اليوم، ولو على نطاق إقليمي. 
وكل ذلك ارتباطاً برفض الولايات المتحدة التسليم بخسارتها أغلب بلدان أميركا اللاتينية، وبفشل مساعيها لاستتباع و"محوطة" روسيا واحتواء الصين التي باتت تنافسها في حجم الانتاج القومي السنوي (اكثر من 17 تريليون دولار لكل منهما)، فيما تعمل دول كبيرة ووازنة مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا مع روسيا والصين في إطار مجموعة "البركس" على إنهاء "نظام القطب الواحد" وبناء نظام عالمي جديد يتسم بالتوازن وتعدد الأقطاب، كنظام تتوق وتسعى إليه أيضاً ما تسمى "الدول المتمردة" مثل كوريا الشمالية وفنزويلا وإيران. بل تتوق وتسعى إليه، (وهنا الأهم) شعوب العالم بما فيها الشعوب "الغربية"، بينما تتجاهل الولايات المتحدة تعاظم نقمة هذه الشعوب واحتجاجاتها متعددة المظاهر والأشكال على "نظام القطب الواحد".
وبالإجمال، ترفض الولايات المتحدة التسليم بأن استمرار إدارة العالم بـ"نظام القطب الواحد" بات حلماً أيديولوجياً خارج الممكن الواقعي، وتتجاهل أن التشبث بهذا النظام لن يقود البشرية إلا إلى المزيد من تفاقم معضلات الفقر والبطالة والأمية والتخلف والجهل وتدني فرص السكن وانعدام الأمن والاستقرار وانتشار الجريمة ونقص المياه الصالحة للشرب، وإلى، (وهو الأهم)، المزيد من الحروب المدمرة وأشكال الإرهاب المرعبة. كيف لا؟ وهو النظام الذي أورث العالم - حسب الإحصاءات العالمية - نحو مليار جائع، (17% من البشرية)، وحوالى مليار إنسان بلا مياه صالحة للشرب، بينما تمتلك 8 من دول "المركز" 80% من الثروة العالمية، وتسيطر 30 شركة احتكارية معولمة أغلبها وأقواها أميركية على 70% من السوق العالمية، ما أفضى إلى تعاظم الفقر، ( في بلدان "المحيط" خصوصاً)، ليصل إلى 32% من البشرية، وإلى اندلاع حروب حصدت أرواح أكثر من 3 ملايين إنسان، وخلفت أضعاف أضعافهم من المشردين والمهجرين والجرحى ومشوهي الحروب، ودماراً مادياً تقدر كلفته بنحو 5 تريليونات دولار، فيما بلغت مديونية بلدان "المحيط" نحو 2 تريليون دولار بفعل إدراجها في سياسات فتح الأسواق وتحرير التجارة بناء على نصائح البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية التي دفعت هذه البلدان إلى إلغاء دور الدولة التنموي، وخصخصة القطاعات الإنتاجية والخدمية وتقليص شبكة الأمان الاجتماعي، وبناء المناطق الحرة الموجهة للتصدير وغير الخاضعة للجمارك، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، ورهْنِ أو بيع الأصول الوطنية، وتعظيم نزعة الاستهلاك وتراكم الديون الداخلية والخارجية، وصولاً إلى تحويل هذه البلدان إلى أسواق استهلاكية ومناجم يستنزفها المركز الرأسمالي العالمي.
هنا، مع الإقرار بأن "الطغاة يمهدون الطريق للغزاة"، نعثر على الترابط القائم بين سياسة الحروب بالوكالة الجارية، (بغطاء من هيئة الأمم أو من دونه)، لا لتغيير النظام السياسي بل لتدمير أو تفكيك أو تقسيم الدولة وانتهاك سيادتها واستقلالها ووحدتها الجغرافية والمجتمعية في كل من أفغانستان والعراق وسورية واليمن وليبيا والصومال والسودان ومالي وأوكرانيا والحبل على الجرار، وبين سياسة شطب الدور التنموي للدولة التي تتبناها رأسمالية الاحتكارات المعولمة بقيادة الولايات المتحدة وأدوات سيطرتها الاقتصادية، (البنك وصندوق النقد الدولييْن ومنظمة التجارة العالمية)، التي لا ترى دوراً تنموياً اقتصادياً للدولة، وتترك لقوانين السوق على طريقة تاتشر وريغان وبوش الأب والابن الذين اطاحوا نظرية "كنز" التي تمسكت بدور للدولة لتجاوز أزمة "الركود العظيم"، (أزمة 1929 - 1933)، وتبنوا منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي سياسات "الليبرالية الجديدة" القائمة على إلغاء دور الدولة حتى الرقابي على المضاربات في البورصة، (مركز الثروة الاقتصادية العالمية اليوم)، وهو ما أفضى إلى الأزمة المالية، العام 2008، التي تحولت إلى أزمة اقتصادية عالمية أسفرت - حسب الإحصاءات "الغربية" الرسمية - عن خسائر عالمية تناهز 35 تريليون دولار، وعن مديونية أميركية تجاوزت 17 تريليون دولار، ومديونية اوروبية بلغت نحو 10 تريليونات دولار، وعن سحب نحو 800 مليار دولار من الأسواق الناشئة في بلدان "المحيط"، وعن نقل الشركات "الغربية" استثماراتها من البلدان الفقيرة، وعن تدني التدفقات المالية إلى هذه الدول بمقدار 200 مليار دولار، وعن عجز اقتصادي لدى 80 دولة من دول ما يسمى "العالم الثالث"، نتج عن تقلص صادراتها، حيث اعتمدت الاستثمارات الأجنبية إستراتيجية الإنتاج من أجل التصدير بالاعتماد على الأيدي العاملة الرخيصة في هذه البلدان، بينما خسر الدولار اكثر من 10%، ما رفع اسعار المواد الغذائية في العالم إلى اكثر من 40%.
هذا يعني أن إعادة بعض الشعوب إلى ما قبل نشوء الدولة يعيدها - عملياً - إلى أنظمة الملل والطوائف والمذاهب، بل ويعيدها إلى أنظمة الإقطاع التي احتبست البشرية - لقرون طويلة - في وضعية الطغيان وحروب الإبادة وقصور الديناميكية والمراوحة في المكان، علماً أن النظام الرأسمالي الذي اكتسح أوروبا ثم اميركا واليابان....الخ هو النظام الذي أسقط تلك الأنظمة في "الغرب"، وحقق للبشرية خلال القرنين الأخيريْن إنجازات تاريخية اقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية وديمقراطية سياسية ليبرالية من خلال الدولة المدنية الحديثة التي تمخضت عنها الثورات البرجوازية في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وأميركا....الخ لكن رأسمالية السوق الانتاجية التي أعطت الدولة دوراً تنموياً في عصر "الثورة الصناعية" تحولت إلى رأسمالية احتكارية تسببت في اندلاع الكثير من الحروب المحلية وصولاً إلى الحرب العالمية الأولى لتقاسم مناطق النفوذ والسيطرة بين ضواري الرأسمالية العالمية، بل إلى استعمار واحتجاز تطور واستتباع ما يسمى بلدان "العالم الثالث"، ثم إلى صعود الفاشية والنازية، (دون نسيان تعاظم قوة الحركة الصهيونية)، الذي مهد لاندلاع الحرب العالمية الثانية لإعادة تقاسم السيطرة والنفوذ.
أما رأسمالية الاحتكارات المعولمة في عصر "الثورة التقنية" وحقبة "نظام القطب الواحد"، فقد أضافت إلى انتهاكات القواعد والمفاهيم التي أرستها معاهدة وستفاليا العام 1648 لضمان استقرار النظام العالمي، انتهاكات مفاهيم وقواعد التمييز بين النظام السياسي للدول وبين الدولة ذاتها التي تم الحفاظ عليها في حقبة "الحرب الباردة" بين معسكر النظام الرأسمالي ومعسكر النظام الاشتراكي الذي اكتسح رقعة واسعة من العالم، (الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية والصين وبعض ولايات الهند ودول أخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية). 
وهنا يجدر التذكير بأن النظام الاشتراكي الذي بدأ بانتصار الثورة الروسية العام 1917 ثم الثورة الصينية العام 1949، وأعطى حيزاً تنموياً لنظام التعاونيات، حافظ على الدور التنموي للدولة، (كما النظام الرأسمالي قبل رأسمالية الاحتكارت المعولمة)، حيث استحوذت الدولة في التجارب الاشتراكية على نسبٍ واسعة من الاقتصاد والمؤسسات المتصلة به تراوحت بين (30 - 50%) في بلدان، و(70 - 80)، في بلدان أخرى، ما مكَّن النظام الاشتراكي من أن ينجز للبشرية كما النظام الرأسمالي، وإن بمضامين اجتماعية وطبقية مغايرة، إنجازات تاريخية، تمثلت في بناء قاعدة اقتصادية انتاجية وعلمية وثقافية ومؤسسات دولة ومدن عصرية وديمقراطية اجتماعية حققت توزيعاً أكثر عدالة للثروات والمنافع العامة، وتحرراً من نهب شركات الدول الرأسمالية، بينما كشف انهيار تجربة هذا النظام في الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية، عن خلل تدني، وأحياناً تغييب، الديمقراطية السياسية، كخلل استفاد منه ووظفه ساسة ومفكرو ومنظرو رأسمالية الاحتكارات المعولمة التي تكشف اليوم أكثر من أي وقت مضى عن تناقض أن النظام الرأسمالي الذي حقق من خلال الدولة المدنية الحديثة انجازات تاريخية هو النظام ذاته الذي قاد البشرية إلى حربين عالميتين وعشرات الحروب المحلية والإقليمية، وإلى نشوء الفاشية والنازية والصهيونية والاستعمار، ما يعكس الخلل البنيوي للرأسماليات "الغربية" المتمثل في تغييب الديمقراطية الاجتماعية، داخلياً وخارجياً، أي الخلل الذي أنجب، فيما أنجب، سياسات الليبرالية الجديدة "المتوحشة" التي تضرب اليوم، فيما تضرب، ما بناه النظام الرأسمالي من قطاع عام وصل أحياناً إلى 20 - 30% من الاقتصاد الكلي، ومن اقتصاد إنتاجي استوعب الشغيلة، وشيَّد المدن المعاصرة، وأنشأ تنظيمات اجتماعية ونقابية ونسوية وأحزابا سياسية ومؤسسات اكاديمية وإعلامية وقواعد ضغط وحريات وحقوق..الخ