انتكاسة أمريكية جديدة فى مجلس الأمن

714051515525325.jpg
حجم الخط

 

حقيقتان تجاهد إدارة الرئيس الأمريكى ترامب لإنكارهما والتغاضى عنهما. الحقيقة الأولى أن الولايات المتحدة لم تعد القوة العظمى القادرة على توجيه السياسة الدولية حسبما تريد، فقد فقدت القوة الأمريكية سطوتها أمام ظهور منافسين جدد على قيادة النظام العالمي، وتداعت مكانتها منذ أن واجهت أعنف أزماتها الاقتصادية عام 2008، وبدأ عصر الأفول الحقيقى للقوة وللدور الأمريكيين منذ ذلك الوقت. والحقيقة الثانية أن سياستها الخارجية والأدوات التى تلجأ إليها لتنفيذ، أو لفرض هذه السياسة، باتت مرفوضة عالمياً بل كريهة وسيئة السمعة خاصة سلاح المعونات الاقتصادية والمالية الذى تستخدمه الولايات المتحدة لقهر إرادات الدول والشعوب. أبرز مؤشرات هذا الرفض ظهر عندما لوحت المندوبة الأمريكية فى مجلس الأمن نيكى هايلى بأن بلادها ستسجل تصويت الدول فى الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار رفض اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، ولن تقدم الدعم المالى لأى دولة تصوت لمصلحة هذا القرار. لكن هناك حقيقة ثالثة وهى أن العالم ضاق ذرعاً بسياسة التسلط الأمريكية المتجردة من القيم العليا التى تعارف عليها العالم وأكدتها المواثيق الدولية، ومن بينها احترام إرادة الدول والشعوب فى اختيار أنظمتها السياسية وحقها فى تقرير المصير على أرضها، وأن العالم أضحى متحفزاً للتمرد على هذه السياسة الأمريكية.

أكبر دليل على ذلك ما حدث فى الأسابيع الماضية من سقطات أمريكية مريعة بدأت برفض الرئيس الأمريكى أن يجيب بـ«نعم»على أن«إيران ملتزمة التزاماً كاملاً بالاتفاق النووى الموقع معها» وأن هذا الاتفاق مصلحة أمريكية، وكانت النتيجة أن الكونجرس بات مطالباً باتخاذ قرار بخصوص الموقف الأمريكى من هذا الاتفاق الدولي، وهو أمر يحمل إمكان إما القبول باستمرار الالتزام الأمريكى بهذا الاتفاق وإما رفضه. هذه السياسة الأمريكية فجرت موجة من الغضب والاستفزاز من جانب الدول الكبرى الأخرى الشريكة فى هذا الاتفاق (روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) خصوصاً على ضوء التأكيدات المستمرة للوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران ملتزمة التزاماً كاملاً بالاتفاق، فاندفعت هذه الدول لتأكيد التزامها بالاتفاق وانبرت للتصدى للتوجه الأمريكى محذرة الولايات المتحدة من تداعياته الخطيرة.

السقوط الأمريكى الثانى جاء منذ أسابيع فى الأمم المتحدة وكانت بدايته قرار الرئيس الأمريكى نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وهو القرار الذى كانت له تداعياته الهائلة على المستويات الفلسطينية والعربية والدولية، وجاء بآثار عكسية تماماً. اتجهت الفصائل الفلسطينية إلى التوحد وظهرت بدايات لانتفاضة فلسطينية ثالثة، وعادت فلسطين قضية أولوية عربية، والأهم هو الموقف الدولى فى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة الذى جاء بالإجماع تقريباً ضد الإرادة الأمريكية. وعلى الرغم من كل ذلك يبدو أن الرئيس الأمريكى وإدارته لم يستوعبا الدروس، وأنه كان لزاماً أن يتعرضا لدرس ثالث أقوى وأشد ووجهاً لوجه وأمام كل العالم على نحو ما حدث يوم الجمعة الماضى فى جلسة مجلس الأمن التى خصصت لمناقشة الاحتجاجات الشعبية الأخيرة التى وقعت فى إيران. فقد ثبت أن الولايات المتحدة تتربص بإيران قبل فترة طويلة من اندلاع تلك الاحتجاجات. الموقف الأمريكى الداعى إلى إنهاء الاتفاق النووى الموقع مع إيران ثم الدعوة الأمريكية، المدعومة إسرائيلياً، للقضاء على برنامج إنتاج الصواريخ الباليستية الإيرانية، واتهام إيران بدعم الإرهاب ورعايته، ثم جاءت إستراتيجية الأمن القومى الأمريكية الجديدة التى أعلنها الرئيس ترامب لتضع إيران إلى جانب كوريا الشمالية كمصدرين خطيرين لتهديد الأمن والمصالح الأمريكية، وبعدها جاءت دعوة المندوبة الأمريكية فى مجلس الأمن نيكى هايلى لبناء تحالف دولى يتصدى لإيران، ثم التسريب الأمريكى - الإسرائيلى عن بلورة «تفاهمات مشتركة» أمريكية- إسرائيلية حول إستراتيجية مواجهة ضد إيران، تكشف كلها وتؤكد أن إيران باتت مستهدفة أمريكياً.

الإصرار الأمريكى على تخصيص جلسة خاصة فى مجلس الأمن لمناقشة الأحداث الإيرانية الأخيرة أوقع واشنطن دون أن تدرى فى مأزق لم تدركه جيداً، وهو أنها ستبدو أمام كل العالم متحاملة ضد إيران، وأنها ستضع نفسها موضع الاتهام بالتحريض على تلك الأحداث والتدخل فى الشئون الداخلية الإيرانية. وجاءت وقائع تلك الجلسة التى شاهدها العالم كله لتؤكد أن الولايات المتحدة أضحت معزولة حتى عن حلفائها الغربيين فى المجلس الذين رفضوا استغلال المجلس وتوظيفه لخدمة أهداف خاصة وكانوا شديدى الحرص على تأكيد التزامهم بالاتفاق النووى مع إيران، على نحو ما تحدث المندوب الفرنسى الذى اعتبر أن الاحتجاجات الإيرانية «لا تشكل فى ذاتها تهديداً للسلام والأمن الدوليين»، وقال «علينا أن نحترس من أى محاولات لاستغلال هذه الأزمة لمصالح شخصية، لأنه سيكون لذلك نتائج عكسية». أما المندوب الروسى فقد اعتبر أن الولايات المتحدة «انتهكت منبر مجلس الأمن، وأن الاجتماع محاولة لاستغلال الوضع الراهن فى إيران لتقويض الاتفاق النووى الذى تعارضه الإدارة الأمريكية».

كان دفاع المندوبة الأمريكية عن موقف بلادها العدائى ضد إيران فى تلك الجلسة مدعية أن الولايات المتحدة «تقف مع الذين ينشدون الحرية لأنفسهم» فى تبرير لسياسة بلادها الداعمة لتلك الاحتجاجات، وهو ادعاء يتعارض تماماً مع جوهر وحقيقة السياسة الأمريكية التى تناهض حريات الشعوب، وهى من يساند ويدعم بقاء آخر مشروع استعمارى استيطانى عنصرى فى العالم على أرض فلسطين، وهى من يتدخل فى الشئون الداخلية للدول ويدعم الإرهاب وبالذات إرهاب «داعش» الذى ترعاه فى سوريا وتحميه. فهى من تستر على نقل آلاف من مقاتلى «داعش» من محافظة الرقة إلى محافظة دير الزور باعتراف هيئة الإذاعة البريطانية، وهى من نقل أخيرا المئات من مقاتلى «داعش» خارج سوريا إلى جهة غير معلومة لتوظيفهم حيث تريد، وهى من تؤكد على لسان وزير دفاعها جيمس ماتيس أنها ستحافظ على وجود عسكرى فى سوريا إلى أن تتحقق التسوية السياسية، وجود عسكرى مفروض وخارج كل قوانين الشرعية الدولية، تماماً، كما هي، السياسة الأمريكية، لكن الكارثة أن الرئيس الأمريكى وإدارته مازالا خارج إطار استيعاب كل الحقائق التى يدركها كل العالم، وهى أن الولايات المتحدة، تحت رئاسة ترامب، أضحت دولة محترفة تلقى النكسات.