ماذا يعني أن تكون كاتباً وصُحافياً؟!

2.PNG
حجم الخط

الكاتب: د.محمود فطافطة

في الحادي عشر من الشهر الثاني عشر من عام 1976 انطلقت الصيحة الأولى في حياتي من مسقط رأسي ( بلدة ترقوميا) الواقعة شمال غرب مدينة الخليل.... من سهول هذه البلدة وغابتها ( وادي القف) الممتدة على مساحة 5000 دونم، وجبالها المطلة على الساحل الفلسطيني بدأت خطواتي نحو حياة مجبولة بحب العائلة والطبيعة والأرض والمدرسة والقراءة والمسجد. بيئات تعلمت منها وفيها الكثير من مبادئ الاخلاص وقيم الوفاء والانتماء لأرض لا نعرف لنا أرض ووطن سواها... في بلدتي الوادعة بأهلها والبديعة بجغرافيتها تنفست وتنشقت عبير وطني الذي يمتد في عقلي ووجداني على مدى فلسطين التاريخية من بحرها الى بحرها...

 

التحقت بمدرسة البلدة لأنطلق صوب رحاب العلم وفضاءات المعرفة ... لقد كنت صديقا للمدرسة مثلما كنت محبوبا لأساتذتها... لم تكن المدرسة مرحلة اجبارية او قسرية لي، بل كانت منبعاً لارتواء المعرفة، وقنطرة اخطو من خلالها نحو جسر الانجاز والتحصيل المعرفي والأكاديمي الاوسع...

 

في المدرسة تعرفت على أهمية العلم كسبيل نحو تفجر الارادة المعرفية والمهارات العلمية والقدرات العقلية ... وبالحصول على قاعدة معلوماتية ومعرفية جيدة في المدرسة التحقت بجامعة النجاح الوطنية بنابلس لانتقل بعد فصلين الى جامعة بيرزيت لأحصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير في العلوم السياسة والعلاقات الدولية منها. هذه المرحلة ساهمت في تخليق حالة واسعة ونوعية من المعرفة السليمة والمواقف الواضحة والمحددة لكينونتي الشخصية والإنسانية والفكرية..

 

في هذه الفترة تأسست لدي فضاءات من الجد والاجتهاد والجدية القائمة على أساس منهجي ومعرفي واضح وقويم... خلال هذه التجربة تعلمت كيف اقرأ وأكتب وأفكر جيداً.. فيها تعرفت على الحياة ليس بمجرداتها المادية والشكلية والبصرية، بل بعمقها الروحي ومضمونها الدقيق الواعي... ومن البكالوريوس مروراً بالماجستير وصولا الى الدكتوراه تعلمت كيف انقد بمعرفة، وكيف ابحث باقتدار، وكيف احلل بموضوعية وجدارة.. العلم لا يمنحك شهادة بقدر ما يعطيك التميز والقيم..

 

لم يسرق الزمن من عمري سوى أربعين عاماً إلا وقد غرست في بيدره بذوراً شتى من المعرفة والإبداع... لم اكتفي بميدان الصحافة صائداً للأخبار وكاشفاً لما أراد البعض إخفائه أو افنائه، بل طرتُ بعيداً في فضاءات العلم وتخليق كل ما هو جديد .. كتبتُ الشعر فأجدتُ في حقوله ، وخطت المقال فتوسعت في تنويعه وتحليله، وأدمنت التأليف لأتنوع في موضوعاته، واقتحمت التدريب فأتقنت في تصويبه، وأبحرت في التدريس الجامعي لأغدو بارعاً في إثراء النقاش وتثوير العقول.

 

رفضت أن اكون متحوصلاً في شرنقة الأيدولوجيات أو مردداً لصدى الساسة أو متماهياً لنزوة المال ، أو مساوماً لمواقف جُبلت من شعاع روحي .. لم أجد في الكتابة مجرد خيوط اصنع منها شباكاً من النصوص المزدانة بمعانٍ واضحة وأفكار مترابطة وتعابير زاهية ورؤى متماسكة بل مثلت لي رسالة أُعلي بها صوت الحق وأطمس من خلالها نداء الفتنة وشهوة الفساد ونار الفوضى.

 

صادقَت العلمَ فصَدَقَ معي، وتلبّست القراءةَ فأغدقتْ علي من مَعينها وعونِها الكثير .. لم افتر يوماً من العلم رغم ما لاقيته من مشقة البحث ودوامه، وإعراض البعض نتيجة مواقفي وآرائي ..... كان العلم ليَ بمثابة الطائر الذي يرتحل بحريته نحو فضاءات الافق دون قيد او رقيب .. حلمتُ منذ أن كنتُ في الثانوية العامة أن اصبح صحافياً في جريدة القدس فتحققت تلك الامنية .. كما تمنيتُ منذ أن كنتُ طفلاً يافعاً أن أقود سيارة تحمل لوحة ( ( press فتحققت تلك الأمنية كذلك" .. آمال عديدة تمنيت تحقيقها في مجال العلم فكان لي ما اردته... امنيات ليس أولها أن اصبح صحافيا .. وليس آخرها أن أغدو كاتبا وباحثا ومدربا ومؤلفا ومحاضرا في الاعلام.

 

ولدت لأكون صحافياً وباحثاً .. ولدت مع الارادة والإصرار لأقتل العجز والبؤس .. من أراد أن يكون اعلامياً لا يمكن له أن يكون يائساً او كسولاً.. الصحافة توأم للإرادة والأمل .. إنها قرين التجربة والتحدي دون جزع أو تواكل .. دون شكوى أو تبعية.

 

منذ صغري وأنا اعشق صيد الأخبار ومطاردة الأحداث، ووضع نفسي في ميادين الجرأة والمغامرة لكشف الحقائق وما يسعى الآخرين لدفنه. لا أجيد سوى القراءة والكتابة والتفكير، فبهما ملئت وقتي بالمفيد ، وفيهما سبحت روحي في ماء السعادة ، وطافت أشجاني في ربوع الذكريات الجميلة ".

 

منحني الاعلام ترياقاً استقوي به على صيد الحقائق وكشف الحقيقة التي تُذبح بين حينٍ وآخر بمقصلة المنافع الخاصة ، والإيديولوجيات الهشة ، والهويات الفرعية القاتلة ، والرقابات المفرخة للمجاملة تارة وللخوف تارة أخرى " .

 

تعلمنا الصحافة وأحببناها ودافعنا عنها لأنها:عدسة المجتمع ؛ بها يتعرف الفرد على واقعه ومن خلالها يتفاعل مع قضاياه ويرصد مستقبله.... لأنها سلاح بيد كل من يتطلع للتغيير، كما أنها سلاح كل من يرفضون التغيير. ..لأنها حاجة إنسانية، ورسالة سامية، ومهنة مكرسة للصالح العام... لأنها تخلق تياراً وتؤسس رأياً وترشد مجتمعاً وتقود أمة وتراقب حكومة... لأنها تكشف الفساد، وتساهم في شيوع النزاهة والحكم الرشيد...لأنها أساس بناء الديمقراطية. تشحذ الجهود من أجل الشعب والوطن، غايتها أن تنير لا أن تُملي ...

 

تعلمت الصحافة لأنها تفضح الغش، والخداع، وتحارب الشر والفساد... لأنها أداة للعدل وسيفاً مصلتاً على الجريمة. .. لأنها محام عام عن الشعب، ومرآة للأحداث، ونصير للحق... لأنها رسالة قبل أن تكون مهنة... تعلمنا الصحافة لأنها قوة ضخمة، عظيمة الأثر، بالغة النفوذ، انتزعت من أصحاب السلطان لقبهم فسموها " صاحبة الجلالة " ووقفت بقامتها المديدة تفرض نفسها بين القوى الموجهة في كل بلد ، فسميت "السلطة الرابعة".

 

الكتابة هي نور ونار... نور يضي ابواب الحق ويشعل قناديل الحقيقة.. ونار تصلي اعداء هذا الحق وأنداد هذه الحقيقة.. ما أن بزغت بواكير قراءتي هممت بالكتابة.. فمنذ طفولتي المبكرة احب الكتابة واجد فيها متنفساً لروحي نحو مشارف المتعة والمعرفة والتميز والتطوير والتقييم والتقويم الذاتي.

 

الدافعية للعمل تنطلق من الانتماء لهذا العمل.. فانتمائي للعمل الكتابي تخلق من اعتباري الكتابة هدفاً انسانياً وعظيما لا ترفاً او تضييعا لوقت أو تحقيقاً لشهرة أو جاهاً او وجاهة... الكتابة هي أول الاعمدة التي تأصلت عليها المواجهة، واليها استندت مقولات المنعة والتحرير والمجابهة.

 

لا أُجامل في كتاباتي إلاّ من هو جميل الفعل والقول والشعور... لا أجامل إلاّ من أصَّلَ للخير طريقاً وأرسى للحق منهاجاً وجيَّشَ للريادة قدوةً ونموذجاً. حديثُ الاحترام أقصر الطرق للاقتداء، ونصوصُ الانتماء أعبق وقوداً لشرارة الإخلاص.. شَغلتُ حياتي بالكتابة فلم أكتب إلاَّ ما ينفع الناس ويُنير لهم دروب الحق والكرامة.. فالكاتبُ الذي يمتشق سلاحَ الكلمة الحرة والطيبة هو الكاتب الحقيقي.. هو الكاتب العضوي الذي يستحق أن يكون إنساناً.. الكاتبُ وعاءُ الأمّة الذي تنهل منه دليل التقدم وتركن لعصاه الفكرية الناصعة في زمن الالتباس وفِتَن الشبهات والشهوات...

 

لا نجاح إلا بصعوبة، ولا تقدم إلا بعراقيل.. وبما أن مهنة الصحافة مهنة متعبة، وإن كانت ممتعة إلا أنها تحتاج إلى كثير من المعرفة والإدارة والإرادة والتجدد والمهارة والسلوك القويم.. مهنة تعيش فيها وبها في بيئة مضطربة سياسيا وأمنيا واجتماعيا... كل ذلك يخلق لديك عراقيل ولكن مقابل ذلك يخلق لديك تحدي ومواجهة وتقدم..

 

الكاتب الحقيقي هو الذي يُحيِي في قلوب الناس وعقولهم ذكريات العظماء أمواتاً كانوا أو أحياء.. هو الكاتب الذي لم " ينبطح" لرغوة المال، أو شهوة الكرسي، أو قبضة العسكري.. الكاتب القويم هو الذي يُعلي من الحق والحقيقة والحقائق.. الكاتب الفذّ هو الذي ينزع الباطل والبدع والفتن من قلوب الناس ووجدانهم... إنه الكاتب الذي يُحطم رايات الظلم الهشّة، ويطارد قراصنة الموت وطحالب الأوطان وثعالب النفاق... كتبتُ الكثير ــ ولله الحمد والمنّة ـــ دون أن أجامل أحداً إلاّ بحقٍ وصدق.. ونادراً ما كتبتُ بشأن البعض كأشخاص يستحقون التقدير كتابتة وتخليداً عبر النص..

 

لا ابحث عن شيء لذاتي بقدر ما ابحث عن شيء يفيد وطني وقضيتي وأمتي... الكاتب والباحث والاعلامي لا يسلك طريق الفردية، أو يسعى الى تحقيق الأنا ، بل عليه ان يكون جماعيا ويتأسى بمفردة النحن.. علينا أن ننظر الى عملنا على أنه انعكاس للآخرين.. لا عمل مفيد الا اذا كان هدفه الصالح العام... لا بأس، بل ومطلوب أن تعتني بذاتك وعملك، ولكن اياك أن تنسى الاخرين ..

 

المجتمع يريد أن تكون صحفياً حراً مستقلاً لا صحفياً تابعاً وجبانا.. المجتمع يريد منا نحن الصحفيون والكتاب أن نكون عيناً لهم لا عيناً عليهم.. يريد المجتمع أن نكون مثل النواب، ممثلين لقيمهم ومطالبهم وآمالهم وهمومهم... اذا ارسى الصحفي هذه القيم وتلك المبادئ لن يبخل المجتمع بدعمه ومساندته ومنحه الاخبار والمعلومات... خال مسيرتي الصحافية التي تتجاوز أل 17 سنة كنت امينا لمهنتي ووفياً لمجتمعي... فكان المحيط يحيط بي دعماً، والمجتمع يرفدني معنوية ويسندني قوة وديمومة..

 

من أبدع ونفع سيشُار له بالبنان في حياته وسيخلد بعد موته.. من سلك طريق العلم تقرباً إلى الله ومرضاة له واحقاقاً لدينه وابطالاً لنواهيه سيجد متعة لا مثيل لها في مسيرته العلمية والمعرفية عموماً.. العلم يحتاج الى ارادة، وصبر، وايمان وعمل.. انه يحتاج الى قدوة، ومهارة وقيم.. بدون ذلك يصبح هذا الجسم المعرفي كالوعاء المثقوب لا يزداد خيراً، ولا يُنتفع منه أبداً..

 

علينا بالعلم النافع الذي يحقق قوتنا ويضعف عدونا ويخدم ديننا ويؤسس لنا مجتمعاً صالحا قوياً بالعدل والعدالة والاعتدال..