في زمن الغيبوبة

وليد ابو بكر
حجم الخط


لم أجد في هذا الكمّ الهائل من الأعمال "الدرامية" في رمضان سوى دراما اجتماعية تشير إلى المستوى الفكري الذي وصل إليه مجتمعنا العربي في هذا الزمن، والذي يكاد يحيله إلى نوع من الغيبوبة التي لا تطرح جدلا. ويبدو أن هذا المستوى هو الذي حدا بنقابة الفنانين في القاهرة بأن تعيب ما يعرض، وأن تلوم من أنتجوه، وأن تحثّ الناس على عدم متابعته. ولولا أن مسلسل "حارة اليهود" قد يثير شهية المتابعة، للتعرف على السذاجة المطلقة في طرح قضية الاستعمار الصهيوني لفلسطين وما حولها، لما تولدت نية في تحريك المؤشر إلى فضائية عربية.
ما يتوفر من وقت، تحتله القراءة كليا. لكن تأثير "السائد" لا يغيب عن حسّ الاختيار. هناك إغراء في قراءة ما اشتهر، أو ما أثار شيئا من الجدل، أو ما ينتسب إلى أصحاب تجارب كتابية، سبق أن توبعت عبر مسارها، سواء أظلت مستمرة عليه، أو مالت عنه. ومن بين ذلك ما حقق نسبة عالية في البيع، أو ما حقق نجاحا في الإقبال، عند تحويله إلى شكل من أشكال الدراما المرئية.  
رواية "الفيل الأزرق"، طبعت بشكل متكرر في القاهرة، وكانت من أكثر الكتب مبيعا خلال الفترة الأخيرة، مع ما كتبه مؤلفها أحمد مراد من قبل، مثل "فيرتيجو". وكما كانت أعمال إحسان عبد القدوس تحظى بنوع من السباق، لشرائها للسينما، قبل أن ينتشر التليفزيون، باتت أعمال هذا الكاتب تحظى بالسباق أيضا، وتم تحويل الرواية الأولى إلى مسلسل تليفزيوني، لم أشاهده، كما تم تحويل الرواية الثانية إلى فيلم سينمائي، لم أشاهده بعد، وإن كنت تابعت ما ينشر عن أنه أكثر الأفلام نجاحا جماهيريا في مصر خلال هذا العام.
وأنا أقرأ عن فيرتيجو، تذكرت فيلم ألفريد هتشكوك الذي يحمل الاسم ذاته، وتذكرت سيناريو فيلم كتبه جان بول سارتر، ولم ينفذ، لكنه نشر ككتاب. كما تذكرت ترجمة العملين إلى العربية بعنوان "الدوامة"، وكانت هذه الدوامة نفسية في الفيلم، وسياسية في السيناريو، تدور كل منهما في حلقات، لتنتهي كما بدأت.
قبل أن أقرأ "الفيل الأزرق" تصوّرت الرواية من هذا النوع. وأنا أشرع في القراءة، أحسست بتأثر واضح بالجو النفسيّ التشويقيّ لهتشكوك، وتمنيت عمقا مشابها، خصوصا وأن الرواية توجه الشكر إلى واحد وعشرين اسما، كثير منهم من حملة الدكتوراه، أو من المشاهير. ولأن بطل الرواية طبيب نفسي، يعمل في مستشفى العباسية الشهير، والبطل الموازي طبيب نفسي متهم بالقتل، كان يعمل في مستشفى نفسي خاص، فقد توقعت أن بعض الاستشارات التي لجأ إليها المؤلف، خريج المعهد العالي للسينما قسم التصوير، هي استشارات نفسية، من أطباء متخصصين، وهو ما بدا واضحا عند طرح الاحتمالات المرضية للطبيب المتهم، من قبل البطل المشرف على حالته، وهو يناقش زملاءه الأطباء، في المستشفى، وفي اللجنة المكلفة فحص مدى مسؤوليته عن قتل زوجته. 
إلى هنا، كانت الرواية ممتعة، ويمكن التجاوز بسبب ذلك عن كثير من التثاقف، بطرح أسماء الأمراض النفسية، وباستخدام اللغة الإنجليزية في غير ضرورة لها، كما يمكن التجاوز عما يشبه الانهيار الذي يصيب الطبيب المشرف على متابعة زميله وصديقه القديم، الذي رفض أن يزوجه أخته التي كان يحبها، وما يزال، إلى الحدّ الذي يكاد يتهم فيه نفسه بالتسبب في حادث قتلت فيه زوجته وابنته، وكان سببا في لجوئه إلى ثلاثية الغيبوبة: الخمر والمخدر والجنس، ما كان سببا في تهديد عمله.
كنت أتوقع تحليلا لما أصاب الطبيب المتهم، حتى أقدم على جريمته، وكانت هناك بدايات لذلك، مرفوضة من إدارة المستشفى، ومن اللجنة، لأن العلم ـ حسب الرواية ـ لا يعترف بازدواج الشخصية كمرض نفسي أو عقلي، حتى وإن اعترف بالفصام. لكن الذي فاجأني هو هذا التحول الغريب نحو فانتازيا الأشباح التي سادت فترة في الدراما الأميركية، مع تطويع ذلك للجو المحلي المصري، الذي يوجد فيه من يؤمن بأن الشيطان يمكن أن يسكن البشر، ويجبرهم على التصرف كما يشاء.
حتى السطور الأخيرة من الرواية، التي يتخللها كثير من القتل والمخدر والجنس ـ مثل الأفلام الأخيرة حول الحارات الشعبية ـ كنت أتصور أن كاتبا في هذا العصر، وبمثل هذا النجاح، خصوصا في تصوير الفانتازيا المتوالية عبر الكوابيس، وعبر ما يتهيأ لمن يتعاطى مخدرا شديد الفاعلية، اسمه الفيل الأزرق، سينفي وجود مثل هذا الوهم، في نهاية الأمر، لكني فوجئت بالفعل بأن الرواية تؤكده، لا عن طريق الهلوسة التي تسود أحداثها، وإنما عن طريق الإقناع، الذي يؤكد أن وشما شيطانيا رسم على فخذ امرأة، استدعى شيطانا شبقا أن يدخل في جسد زوجها، ليغتصبها بشراسة تنتهي بموتها، انتحارا، أو قذفا من نافذة عالية.
عند هذا الحدّ تسقط كل السمات السابقة في أسلوب السرد الذي يحمل شيئا من التشويق، وهي لا تسقط فنيا وعلميا فقط، ولكنها تسقط في الجهل أيضا، حين تعزز قناعات تشبه الغيبوبة، وتملأ كل الصفحات بالمشهيات المبتذلة، من أجل أن تساير ما تعتقد به بعض الفئات بسبب الجهل، ومن خلال ذلك تحقق الانتشار.
مهمة العمل الروائي، وما يشتق منه، هي نشر الوعي بين الناس، لا نشر الغيبوبة، وتقنين الجهل بطريقة علمية، ومهمة العمل الروائي تكون في الكلمة الأخيرة التي يقولها، وهي كلمة تخدم المجتمع، بعدم تثبيت قناعات غير ثابتة، حتى وإن كان الكاتب يؤمن بها، أو يراها سبيلا إلى تحقيق الانتشار، لأن القارئ الواعي لا يستطيع أن يصدق أن كاتبا واعيا يمكن أن يطرح أمامه بطلا يلبسه الشيطان، من باب العلم، لا من باب التسلية، كما يحدث في الدراما الغربية، التي قلدها هذا العمل.