العودة إلى المربع الأول

a655d6784b87cfbddcec71d2f4ff3be5.jpg
حجم الخط

 

يبدو أن القيادة الفلسطينية حين أصرت على عقد الدورة العادية للمجلس الوطني الفلسطيني، رغم عدم وجود توافق وطني، خاصة لجهة عدم تحقق المأمول بأن تكون الجلسة مناسبة لانضمام كل من حركتي "الجهاد الإسلامي" و"حماس" لمنظمة التحرير الفلسطينية، قد اختارت أهون الشرين، ذلك أن الشر الأكبر كان سيكون في عدم عقد الجلسة، والجلوس أمام الهجوم السياسي الإسرائيلي/الأميركي بلا حول ولا قوة، لذا كان لا بد من "فعل سياسي" مفصلي، لا يكون عادة دون صخب أو لغط، ولسبب مرتبط بطبيعة القيادة الفلسطينية الحالية، التي هي ليست صاحبة شعارات، بل هي من النوع الصلب الذي يتمسك بجوهر الموقف السياسي، دون الشكل الذي عادة ما يكون مغرماً برفع الشعارات، وبأحداث الجلبة الإعلامية، فلم تنخرط القيادة في لجة الحديث عن موجبات عقد الجلسة حتى دون تحقيق ما كان مأمولاً.
القيادة الفلسطينية التي ربما كانت لا تزال لم تفقد الأمل منذ العام 2014 إلى نهاية العام الماضي، باحتمال حدوث تحول أو ضغط يطلق المفاوضات مجدداً، ويحيي مشروع حل الدولتين، باتت بعد إعلان دونالد ترامب الخاص بالقدس، وبعد اكتمال عقد جوقة البيت الأبيض والخارجية الأميركية بإقالة ريكس تيلرسون وتعيين مايك بومبيو، إلى جانب كل من كوشنير وغرينبلات، وفريدمان وهايلي، المعادين جميعاً للحقوق الفلسطينية، والذين يصطفون على يمين الحكومة الإسرائيلية كما لو كانوا مستوطنين، أيقنت أن حل الدولتين قد بات في خبر كان، لذا فإن فصلاً جديداً من الصراع قد بات وراء الباب.
هذا الفصل من الصراع، لا بد من أجل خوضه والدخول فيه، إعادة ترتيب الأوراق كاملة، وعدم انتظار إنهاء الانقسام وتحقق التوافق حول عقد المجلس الوطني، والحقيقة أنه لا يمكن لا الاكتفاء بإعلان الموقف الرافض أو المعارض للإدارة الأميركية وللاحتلال الإسرائيلي، ولا برفع الشعارات، ولا حتى بالإقدام على خوض حرب "انتحارية"، رغم أن إعلان الموقف أولاً، يحتاج شجاعة، كذلك فإن إعادة ترتيب الأوراق، تحتاج إلى ما هو أبعد من "الهندسة السياسية"، كذلك يجب عدم الاكتفاء بذلك، فالخطوة التالية مهمة جداً، بل إن تتابع الخطوات وفق برنامج كفاحي طويل النفس أمر في غاية الأهمية، ولهذا فإن "خطاب الرئيس محمود عباس" _بتقديرنا_كان مهماً جداً، ليس لأن ما يتضمنه يتحول إلى قرارات للمجلس وحسب، بل لأنه تضمن لغة لم تسمعها إسرائيل منه على وجه التحديد من قبل.
يشبه الموقف الذي يتخذه الرئيس عباس، هذه الأيام، ذلك الموقف الذي أتخذه من قبله سلفه الزعيم التاريخي الراحل ياسر عرفات، في كامب ديفيد، حين جمعه الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، في آخر أيام ولايته، مع رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت من حزب العمل الوحيد الذي كان صوت ضد أوسلو في الكنيست من حزبه، أيهود باراك، وحاولا إجباره على حل نهائي غير مقبول، فرفض وعاد إلى شعبه، لتنطلق شرارة الانتفاضة الثانية عام 2000.
اليوم الموقف الأميركي أكثر صلفاً وعدائية وانحيازاً، ليس لإسرائيل، بل ليمينها واحتلالها واستيطانها، وهو يفكر في عرض "صفقة القرن" ويتقدم في الوقت نفسه إلى إخراج القدس واللاجئين من التفاوض، لذا فإن الباب قد بات موصداً، وفتحه يحتاج إلى تعديل في ميزان القوة على الأرض، لذا فإن فصلاً من المواجهة الدموية والصاخبة لا بد أن يحدث.
إسرائيل لو كان لديها أدنى استعداد للتعايش ولقبول السلام والحل الوسط، لوجدت في جلوس أبو مازن على مقعد القيادة الفلسطينية مدة ثلاثة عشر عاماً، فرصتها، حيث لم يسبق وأن وجد رجل في ذلك الموقع باعتداله السياسي وبإيمانه بالسلام وهو مهندس أوسلو أصلاً الذي عقده مع "نصف إسرائيل"، ويقيناً إن رجلاً أكثر اعتدالاً لن يكون على الطرف الفلسطيني من الطاولة لأن مثل ذلك الرجل سينظر له من قبل الشعب الفلسطيني على أنه خائن.
لذا فإن ما تضمنه خطاب الرئيس من حديث "تاريخي" يعتبر مهماً جداً، لأنه أعاد الصراع إلى مربعه الأول، وأعاد الذاكرة الفلسطينية التي حاولت أن تتناسى ذلك من أجل صنع السلام، للواجهة السياسية، فإسرائيل كانت بالأصل مشروعاً استعمارياً، وهذا هو جوهر الصراع ومربعه الأول.
لذا فقد أثار ذلك الحديث رئيس الحكومة الإسرائيلية وأثار معه المتصهينين من أركان الإدارة الأميركية الحمقاء، لأنه يقلب الأكذوبة التي هي أصل وعد بلفور وإقامة الدولة الاستعمارية رأساً على عقب، ويعيد القصة إلى مبتدأها، لأنها لم تكن يوماً قصة خلاف على حدود أو على مجرد القدس عاصمة لإسرائيل أم دولة محتلة، ولا عند حدود تنفيذ قرار عودة اللاجئين من عدمه، لذا فإن حديث الرئيس ما هو إلا إعلان عن أن البرنامج الفلسطيني الآن هو حل الدولة الواحدة.
نعود الآن، إلى أنه إذا كان عقد جلسة الوطني مهماً، من أجل تجاوز حقيقة كون الإسرائيليين "يقبضون علينا من اليد التي تؤلمنا" وهي السلطة المحكومة بجملة الاتفاقات وبشبكة من العلاقات مع إسرائيل المالية والإدارية والأمنية، لذا فإن الدفع بـ "م.ت.ف" إلى الواجهة، له معنى عظيم، وهو أن القيادة الفلسطينية اختارت العودة إلى ممارسة الصراع بكل أشكاله، وعدم الاقتصار فقط على المستوى التفاوضي، وإخراج الصراع بنفس الوقت من إطار الالتزام بأوسلو.
هذا هو المهم، بعد "إحياء" م.ت.ف وزجها فعلياً في مجرى الصراع السياسي، أما الخطوة التالية بعد "ترميم وتجديد" مجلسي المنظمة: الوطني والمركزي، ولجنتها التنفيذية، فهي التحضير من اليوم التالي لتشكيل مجلس وطني جديد يحقق الوحدة الداخلية، ويطور البرنامج السياسي، بحيث لا يقتصر فقط على إقامة الدولة المستقلة على حدود العام 1967، بما يدفع بملايين الفلسطينيين الأحد عشر للانخراط في صراع مفتوح وتاريخي مع إسرائيل حول كل ملفات الصراع معها، بما لا ينتهي إلا بتغيير جوهرها الاستعماري، وإقامة دولة لكل مواطنيها على كل أرض فلسطين التاريخية.