أثار حديث الرئيس محمود عباس عاصفة هوجاء في الأوساط الدولية سواء في الأمم المتحدة أو أمريكا أو الاتحاد الأوروبي بسبب ما وصف بالخطاب اللاسامي نتيجة قوله بأن ما تعرض له اليهود في أوروبا لم يكن بسبب كونهم يهودا وإنما بسبب دورهم وأدائهم الاجتماعي مثل الربا والسيطرة على مؤسسات المال وغير ذلك..
ولا بد هنا من إبداء ملاحظة من شقين: الأول يتعلق بالجهات التي قامت ولم تقعد وما زالت ترعد وتُزبد ضد الرئيس وخطابه ، والثاني يتعلق بخطاب الرئيس عباس والأداء الفلسطيني. أما بالنسبة للشق الأول وهو ردود الفعل الغاضبة الساخطة فهي تكشف مدى هيمنة وسيطرة اللوبي اليهودي في أمريكا ومدى تأثيره داخل الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس ترمب ، ونفوذ إسرائيل وتفوق أدائها الدبلوماسي في أمريكا وأوروبا مدعوما بركيزتين : سيطرة وفعالية جماعات الضغط اليهودية والصهيونية في أمريكا وأوروبا ، والثاني استمرار القدرة الإسرائيلية الرسمية والشعبية على استغلال المحرقة وابتزاز الضمير الأوروبي وإبقائه أسيراً للماضي الذي مارس فيه اللاسامية والاضطهاد والملاحقة ضد اليهود.
وقد نجحت هذه الفعالية للدعاية الإسرائيلية واليهودية والصهيونية في إبقاء قضية اضطهاد اليهود في بؤرة الاهتمام الدولي واستخدام ذلك وتوظيفه لصرف الاهتمام والانتباه عن جوهر الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والقتل والقمع والإقتلاع والتهجير الذي يتعرض له على يد الإحتلال الإسرائيلي.
وإذا ما استثنينا المحرقة ووضعناها جانبا ً ، فإن الممارسات الإسرائيلية في مجملها ضد الشعب الفلسطيني هي أكثر بشاعة وظلما واعتداء على المجتمع الإنساني من الممارسات التي تعرض لها اليهود في أوروبا في ظل ما يسمى اللاسامية. فالممارسات اللاسامية الحقيقية التي ما زالت مستمرة حتى هذه اللحظة هي الجرائم التي تُرتكب من قبل الإحتلال الإسرائيلي ضد أبناء شعبنا في كل مكان يتواجدون فيه بدون قيد أو استثناء لأية منطقة جغرافية.
والتحدي الإعلامي الذي يواجهنا هو كيف يمكن أن نعمل على إبقاء هذه الممارسات في بؤرة اهتمام الرأي العام العالمي بدلا ً من إطلاق الفتاشات التي تؤدي إلى فرقعات تصرف الاهتمام عنا وعن قضيتنا العادلة وتعطي الساحة للإعلام المناوىء لشعبنا ليصول ويجول كما يشاء.
وأما بالنسبة للشق الثاني وهو خطاب الرئيس محمود عباس أمام المجلس الوطني والذي استمعت له مباشرة بحكم كوني عضوا ً في المجلس فإنني هنا أمارس حقي في التعليق كعضو في المجلس وكمواطن فلسطيني هو جزء من هذا الأداء الفلسطيني يتحمل عبئه إن أخطأ ويجني ثماره إذا أصاب.
لقد كان من المفروض أن يكون خطاب الرئيس عباس بمثابة جرد وعرض شامل للمرحلة التي امتدت منذ الدورة الثانية والعشرين وهي آخر دورة اجتماع للمجلس الوطني عام 1998 حتى الدورة التي تلتها بعد واحد وعشرين عاما ً من الإنقطاع وهي الدورة الثالثة والعشرين التي انعقدت قبل أيام في الثلاثين من نيسان الماضي ، مستعرضا ً ما تم خلال هذه المرحلة من إنجازات وإخفاقات محاولا ً التأكيد على الإنجازات التي تمت ووضع خطة استراتيجية لتلافي الوقوع في إخفاقات المرحلة السابقة ، ووضع الخطوط العريضة لخطة العمل المستقبلية متضمنا ً ذلك ما يريده الرئيس من البرلمان الجديد (المجلس الوطني الذي تم تجديد بعض أعضائه ) من عمل لتنفيذ ما يريده وما يتوقعه من اللجنة التنفيذية الجديدة التي ستخلف اللجنة التنفيذية التي انتهت مدتها بانعقاد دورة المجلس الوطني الثالثة والعشرين الحالية.
والمعروف في مثل هذه الحالة أن يكون خطاب الرئيس مكتوبا ً وأن يكون نتاج عمل مجموعة من الخبراء والمختصين ممن هم حول الرئيس يصيغون الخطاب ويضمنونه كل ما ورد أعلاه ، يقوم الرئيس بالإطلاع عليه وإدخال ما يريد من تغييرات أو تعديلات أو تصحيح ليكون في صيغته النهائية معبرا ً عن كل ما ورد أعلاه. أي استعراض للماضي وخطة عمل للمستقبل.
والمعروف أيضا ً ولرزانة وأهمية هذه المناسبة أن يقوم الرئيس بقراءة النص المكتوب الذي تمت صياغته بكل دقة ومسؤولية وانتقاء للكلمات والمعاني ، ليضمن أن يتركز اهتمام من يسمع الخطاب على القضايا الرئيسية التي تهم الوطن والمواطن لا سيما ونحن في هذه الأيام بأمس الحاجة لاستقطاب الاهتمام الدولي بقضيتنا الأساسية وهي قضية التخلص من الإحتلال وإنهاء الاستيطان وإقامة الدولة ضمن المعايير التي نكررها دائما ً والتي بتنا نخشى أن تكون التطورات على الأرض قد تجاوزتها إلى غير رجعة.
لقد كان الجزء الأكبر من خطاب الرئيس مرتجلا ً وقراءة من أوراق انتقاها من رزمة ورق كانت أمامه وبدا وكأنه استاذ على منصة جامعية يطرح موضوع بحث قابل للنقاش الأكاديمي لا خطاب رسمي يستعرض مرحلة ويرسم لمرحلة قادمة.
لقد كان الرئيس عباس دائما ً نموذجا ً للشجاعة السياسية ووجها ً حضاريا ً إنسانيا بالغ في بعض الأحيان في محاولة تبديد مخاوف الطرف الآخر وفي إرسال التطمينات والتأكيدات بأننا ضد العنف وضد اللاسامية وأننا نحن أنفسنا ساميون وضحايا للاسامية. وكان للعديد من المقابلات التلفزيونية وغير التلفزيونية التي أجريت معه أثرا ً كبيرا ً على الرأي العام الإسرائيلي والدولي ، فلماذا اليوم ، وبشكل خارج عن النص والسياق ، نسف كل تلك الإنجازات السياسية وإعطاء الخصم وأنصاره السلاح ليهاجموننا ويشككوا في صدق نوايانا ويحاولوا مسح كل أثر إيجابي للجهد والإنجاز الإعلامي الذي حققه الرئيس في الماضي ؟ كيف يمكن للرئيس أن يؤكد استمرار العمل مع قوى السلام في المجتمع الإسرائيلي وهو يتحدث بهذا الشكل عن الكل اليهودي ويصفه بما يُفهم منه بأنه إن لم يكن تبريرا ً للاسامية فهو تفسير لها وإيجاد للسبب " المنطقي " لظهورها وهو يعرف بأن هناك خطوطا ً حمراء يلتقي عندها اليهود كل اليهود سواء كانوا في أقصى اليسار أو أقصى اليمين كالمحرقة واللاسامية!؟
لا شك بأن الرئيس يشعر بالمرارة لأنه قاد عملية تاريخية سعت نحو التصالح مع إسرائيل وتحقيق السلام معها على أساس حل الدولتين. وقد قاد هذه المسيرة منذ وضعه الأجوبة على الأسئلة العشرة التي حملها د . أحمد الطيبي من حاييم رامون نيابة عن حزب العمل الى الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي طاب بدوره من محمود عباس الرد عليها ، وكانت إجاباته عليها شرارة الإنطلاق لما عُرف فيما بعد بالعملية السياسية.
لقد كان الرئيس عباس وراء العملية السياسية منذ أولى خطواتها وعلى الجميع وخاصة الأمريكيين والأوروبيين والإسرائيليين أن يفهموا مدى خيبة الأمل التي يشعر بها الرئيس عباس لأنهم خذلوه وخذلوا توجهاته السلمية وأساءوا فهمها وتفسيرها وتمادوا في محاولات إفشالها من خلال الاستمرار في تنفيذ المخطط الإستيطاني الكولونيالي الذي ينسف أسس السلام ويؤسس لمواجهة شاملة مستمرة مغمسة بالدم والمعاناة الى أجل غير مسمى. وعليهم أن يفهموا بأن ما قد يصدر من أقوال من هذا القبيل من الرئيس عباس ليس إلا بسبب الحالة التي أوصلوه إليها.
ومع كل ذلك فإنني أتمنى على الرئيس عباس كظم غيظه والإلتزام بحدود اللغة الدبلوماسية فيما يدور من حوار بين الدول متفقة كانت أو مختلفة فلا لزوم لنبذ أحد بألقاب أو نعوت لا تفيد ولكنها تثير العواطف وتؤجج العداء وتعطي السلاح لمن يريد أن يستمر في جرنا الى معارك ومناوشات جانبية لإشغال الرأي العام عن جوهر الصراع والمضي في تنفيذ برامجه الإستيطانية. وإنني لأحمل من حول الرئيس من مستشارين مسؤولية عدم إسداء المشورة الصادقة التي لا تجامله في لحظات غضبه لأن صديقك هو من يصدقك القول لا من يقول لك ما يطيب لك أن تسمعه في لحظة ثورة غضبك