عندما يعتذر مُغسّل الموتى

751011512704751.jpg
حجم الخط

 

نقاشات سكان المحشر الغزي، عبر صفحات التواصل؛  تعكس أعراض الاختناق في مناخ الهواء الناقص. على هذا الصعيد تُغلق جبهات وموضوعات سجال، وتُفتح أخرى، بعضها مؤلم لا يخلو من غرابة، وبعضها محزن ولا يخلو من طرافة!

يؤتى بالأفكار ومحاور السجال، واللقطات، مشفوعة بالصور، ويدور وينطلق الهجاء والتهاجي، بنبرات حادة أو بمختصرات جُمل، وتُستحضر في السياق، أجزاء من الأحكام الدينية، أو من اقتباسات الشعر وحكايات الأقدمين، أو عبارات متداولة من كلام العامة.  والسياق في المجمل، يحاكي مقاربات تنم عن طبائع العلاقة بين الأطراف كلها، والمفاهيم والقيم والرؤى السياسية والاجتماعية أو المواقف الحزبية، وعلاقة هذه جميعها، بالفاقة والفقر المدقع والعوز المضني، وبالفوارق بين الناس في الحياة.

حبذا لو التقط باحث لبيب، مثل هذا السياق من صفحات التواصل، وأخذه في إطاره الزمني الراهن، لدراسة هذه الظاهرة التي تعكس واقع المجتمع المأزوم في غزة. فما يسمى في المناهج، تحليل المحتوى، أو تحليل المضمون، هو وسيلة بحثية مشتركة بين علم الاجتماع وعلم النفس وعلم التربية، وحتى علوم النقد والإحصاء وغيرها. والمداخل المنهجية لتحليل الظاهرة الغزية، وحالتها الذهنية كثيرة ومتنوعة!

في غضون أسبوع واحد، يمكن للباحث أن يتوافر على العديد من خطوط السجال اللازمة لبحثه ولتسليط الضوء على التباينات الحادة في مواقف سكان المجتمع الواحد في المحشر الجغرافي الضيق نفسه، وما يتوهمه من آمال أو يتوقعه من كوابيس. فلا بد من تتبع مسارب وأشكال خروج الناس عن أطوارها، والخلفيات المادية لكل أشكال وتعبيرات الخروج عن الأطوار!

أمامنا في غضون أسبوع، أمثلة عديدة على القضايا الخلافية، التي تناولتها السجالات على صفحات التواصل. والأكثر مرارة على النفس من بينها، تلك المتعلقة بشهداء الجمعة الماضية ووجهات النظر المتعارضة بخصوص المسيرات، التعبيرات  المختلفة التي سُمعت في وصف الدماء الطاهرة التي سفكت، إذ اختلطت في اشتباك الآراء، أقاويل الحق الذي يُراد به حق، وتلك التي يراد بها باطل.  ولدينا واقعة جديدة تؤكد على تفشي ظاهرة الانتحار، وردود الأفعال المتنوعة عليها، بين منظور الدين ومنظور المصاعب في الحياة وقدرة الإنسان على الاحتمال. ولدينا مثال مرض رئيس السلطة وتضارب التصريحات بشأنه، وردود الأفعال وخلفياتها ولغتها وعلاقتها بالحال الاجتماعية والاقتصادية وبانحراف الحكم الفلسطيني، وتجرؤه الوقح على أرزاق الناس. ولدينا ردود الافعال على تعليق صورة الرئيس المصري في ساحة السرايا في غزة، والتباين الحاد في ردود الأفعال، بين طيف يتطلع الى استعادة العلاقات التاريخية مع مصر، بدوافع حتميات الجغرافيا والاجتماع، مع عدم التدخل في شؤونها، وثانٍ يرى الحكم في مصر من زوايا نقدية أخرى!

وشَهِد الأسبوع نفسه، سجالاً حول توزيع المساعدات الغذائية الواردة من الخارج، ولم يسأل أحد عن الأطراف التي تخلفت عن الإرسال والإغاثة، ولم يتبق من مكرماتها إلا التصريحات الخارجة من قبعة الحاخام!

لكن أطرف السجالات كان يتعلق بلافتة عجيبة، في واجهات العديد من مغاسل الموتى، وفيها إعلان عن اعتذار مغّسل الجثامين ومجهزها للدفن؛ عن تقديم الخدمة للميت الذي لا يُصلي. وكأن يوم القيامة يبدأ في غزة من عند باب المُغسل، علماً بأن لا وسيلة سوى النميمة، للاستدلال على أن الميت يستحق أو لا يستحق التغسيل، أو كان يصلي أو لا يصلي. فالرحمن والشيطان، حاضران مع ملك الموت في لحظة المُحتَضر الأخيرة، والأمور كلها ــ حسب الدين ــ  قابلة للاستدراك إما بالتوبة أو بالعناد حتى الغرغرة، فالنبي محمد نفسه، استعاذ من أن يتخبطه الشيطان في اللحظة الأخيرة. فما هي علاقة المغسلاتي بالحكم على جدارة المتوفي بالتغسيل أو جدارة من يشهد عليه من الأحياء في أن يحسم، إن كان رب العالمين هو القائل:"وجاءت سكرة الموت بالحق الذي كُنتَ منه تَحيد"" ورسوله القائل "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغرغر"!

تنعكس من خلال صفحات التواصل، مشاهد الحياة في غزة،  وتقدم الجديد الغرائبي في كل يوم. فعندما يعتذر مُغسّل الموتى ويفرز، يتوجب التتبع البحثي لتسجيل كل خروج عن أي طور، في وقت حدوثه، لكي تَعرف الأجيال اللاحقة ماذا كان فعل بنا الفاعلون!