ملهاة الفصل بين الإنساني والسياسي

صادق الشافعي.jpg
حجم الخط

الحديث عن الفصل بين الإنساني والسياسي في غزة لا يخرج عن الهزل او الملهاة السياسية. وهو لا يخرج عن دائرة الخداع او الكلام المبهم والمراوغ الذي تتستر وراءه ترتيبات لتمرير خازوق كبير يضرب في عمق اللحم الوطني.
هل ان كل البلاوي الإنسانية التي تضرب غزة وأهلها جاءت نتيجة كوارث طبيعية مثل: فيضانات او جفاف مزمن او براكين او أعاصير او ما شابه؟
هل ان قطاع غزة يقع بالجغرافيا في كوكب آخر غير الذي تقع فيه بقية أجزاء الوطن الفلسطيني؟ وهل يعيش في ذلك الكوكب ناس لا يعرفون شعب فلسطين ولا يعرفهم؟
هل يجوز بأي حال ان ينغمس في هذه الملهاة فرع من العائلة الوطنية منفردا وبمعزل عن بقية العائلة مع ان آثارها ونتائجها ومصائبها تطال كل ارض الوطن وكل أهلة وقواه السياسية والمجتمعية؟
وهل انه لا وجود لقيادة سياسية وطنية لا يحق ولا يجوز بأي حال تجاوزها في مثل هذا الأمر، حتى لو ان هناك اختلافات معها على أمور أخرى.
كل البلاوي والمصائب الإنسانية التي تضرب غزة وأهلها هي نتائج مرة تنبع من رحم السياسة وتلتصق بها دون أدنى إمكانية للفصل بينهما.
انها نتائج مرة لاستمرار الاحتلال وسياساته والمتشبث بالبقاء الأبدي بادعاءات وتهويمات توراتية غيبية، وتصميم احتلالي إقصائي.
انها نتائج لسياسات العدوان المتكرر بشكل دوري يقتل وينسف ويأسر ويدمر الحياة ومظاهرها ومقوماتها وتعبيراتها.
انها نتائج لسياسات الحصار والخنق المستمرة.
وهي نتائج لسياسات التفرقة والقسمة بين مكونات الشعب الفلسطيني وبين جغرافية مناطق وطنه المقسم.
منذ شهر آذار هذا العام والإدارة الأميركية ومعها حلفاؤها تضع غزة وأحوال أهل غزة على جدول أعمالها بمنطق ودوافع إنسانية مدّعاة وشديدة الوضوح في كذبها ونواياها الخبيثة.
كانت البداية في المؤتمر الذي عقدته في واشنطن لهذا الأمر مع عدد من حلفائها، ولم يخرج عنه أي شيء ملموس.
منذ ذلك الوقت، يعلو حديث «الهدنة» طويلة الأمد بين حركة حماس باسم غزة وأهلها وبين دولة الاحتلال.
 عناوين الهدنة الأساسية: ضمان «حماس» لوقف العمل العسكري بكافة أشكاله ضد دولة الاحتلال، فك الحصار حول غزة، السماح باستثمارات ومشاريع حيوية وضرورية في غزة ويقال في مرات انها ستتم برعاية الأمم المتحدة، موضوع الأسرى والجثامين لدى حركة حماس، وغيرها.
في الغالب فإن المبادرة في هذه الأحاديث والاقتراحات تنسب الى «حماس» برعاية دولة او أخرى.
رعاة وعرابو الهدنة في هذه الأحاديث يتنوعون بين دول عربية وأوروبية وأميركا والأمم متحدة.
في الأيام الأخيرة اصبح العنوان الأبرز للحديث هو «الفصل بين السياسي والإنساني» دونما أي اختلاف في الجوهر او في العناوين ولا في العرّابين والرعاة.
«حماس» لم تعلن رأيا رسميا قاطعا حول هذه الأحاديث وعناوينها ومقترحاتها، لكن بعض المحللين او الراجمين بالغيب افتوا برفض الأخ هنية لها، بينما افتوا بقبول السنوار، وان الأخير عزى رفض الأول بأنه خوف من ايران.
دولة الاحتلال من جهتها لم تعلن موقفا رسميا، لكن معظم التسريبات وبعض التصريحات الشخصية تشير إلى ترددها في قبول هذه الأحاديث ومقترحاتها وعناوينها.
أغلب الظن أن امتناعها عن إعلان موقف رسمي أو ترددها هو نوع من الدلال والتمنع المدروس، ولأغراض المناورة والابتزاز أيضاً. فدولة الاحتلال  ومنذ انسحاب شارون الأحادي من غزة 2004 فإن فصل غزة عن الضفة وإقامة نوع من الكيان فيها ظل واحداً من أهم أهدافها الإستراتيجية بكل قياداتها المتعاقبة.لا نتيجة محسومة في كل هذا اللهو الدائر، اذا ما نجح وتحقق، ولا هدف وراءه، سوى فصل غزة عن الضفة وإقامة كيان منفصل فيها.
هذه النتيجة اذا ما حصلت، فإنها تحول القضية الوطنية الفلسطينية الى قضية إنسانية دولية، وتنزع عنها مضمونها الوطني والنضالي ضد الاحتلال لإنهائه واستعادة الحقوق الوطنية المشروعة والمقرّة من المجتمع الدولي وهيئاته.
هذه النتيجة، اذا ما حصلت، فإنها توجه ضربة قاسية جدا لوحدة الشعب الفلسطيني ووحدة نضاله الوطني، وتضعف مقاومته ضد الاحتلال.
وانها تحقق، كما ذكر، هدفا استراتيجيا لدولة الاحتلال جوهره قسمة الشعب وقسمة سلطته السياسية.
وتخفف، في نفس الوقت عن دولة الاحتلال، بعض عبء المساءلة الدولية  بإرسال رسالة ان الفلسطينيين منقسمون وغير جديرين بإقامة دولة وطنية لهم.
وهذه النتيجة اذا ما حصلت، تقع في حضن الإدارة الأميركية تستغلها وتتلاعب بها لتسهيل تمرير مشروعها المدمّر المعروف بـ»صفقة القرن».
وتستعملها أيضا في تجاوز والالتفاف على القيادة السياسية الفلسطينية القائمة (منظمة التحرير والسلطة الوطنية) المناهضة للصفقة والمتصدية لإفشالها.
يصعب جدا التصور، ان حركة حماس او أي طرف فلسطيني تنظيمي او مجتمعي او شعبي يمكن ان يقبل بهذا اللهو السياسي (فصل الإنساني عن السياسي) بمضمونه المركزي (فصل غزة وإقامة كيان سياسي منفصل فيها).
ويستحيل ان يتفهم او يقبل الفلسطينيون في أي مكان تواجدوا وتحت أي سلطة او نظام، باي مبررات او شكاوى، مهما كانت أهميتها ودرجة تأثيراتها ومدى صحتها، للقبول بهذا اللهو، فالقبول به بالمحصلة يقترب من السقوط الوطني.