فلسطين قطب الأخلاق العالمي

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 


لا نبالغ إن قلنا، إن ما وقع يوم السابع من تشرين الأول سيبقى يثير الجدل، وتقديرات المواقف السياسية، لسنوات طويلة قادمة، وذلك كونه بالأساس أحدث خلخلة في واقع بدا ساكناً لفترة، ويكفينا أن نشير إلى أن ذلك الحدث وما تلاه من حرب إبادة جماعية شنتها إسرائيل على قطاع غزة، قد تسبب في عقد أربع جلسات لمجلس الأمن، شهدت إحداها مشاركة عشرات الدول بإلقاء كلمات، وذلك إضافة إلى عقد جلسة خاصة للجمعية العمومية، انتهت بإصدار قرار يفضي إلى وقف الحرب، وذلك بأغلبية 120 صوتاً مقابل 14، فيما امتنعت 45 دولة عن التصويت.
وبالطبع لم تشهد الحروب السابقة على غزة مثل هذا الجدل العالمي، ومثل ردود الفعل التي ما زالت تتفاعل وتتصاعد، ويعود ذلك لأسباب عديدة، في مقدمتها وضوح جرائم الحرب بشكل صريح، كذلك أهداف الحرب السياسية التي تتضمن استهداف 2.3 مليون إنسان بين القتل أو التهجير من وطنهم، وإذا كان التصويت على قرار الجمعية العامة احتوى مفاجآت منها تصويت فرنسا مع القرار وامتناع بريطانيا وألمانيا وأستراليا، كذلك امتناع كل من العراق وتونس عن التصويت، فإن التصويت على مشاريع قرارات مجلس الأمن خلت من المفاجآت، ذلك أن مشاريع القرارات التي تقدمت بها روسيا والبرازيل قوبلت بالفيتو الأمريكي، فيما أحبط مشروع القرار الأميركي الذي كان يهدف إلى تغطية حرب الإبادة الإسرائيلية بالغطاء الدولي، بفيتو روسي/صيني.
والحقيقة أن الغريب وغير المنطقي، بل وحتى غير الأخلاقي في الموقف الأميركي الذي ظل متطابقاً مع الموقف الإسرائيلي، وهو يتجاوز كل الخطوط الحمر، بحجم الدمار والقتل، حتى بعد مجزرة المعمداني التي أوقعت 500 شهيد في لحظة واحدة، فضلاً عن كونها استهدفت مستشفى، وحتى بعد أن منعت إسرائيل الماء والدواء والغذاء، وثم من قطعت اتصال غزة بالعالم الخارجي، وذلك لأن الموقف الأميركي ظل يراوح عند يوم السابع من تشرين الأول، ولم ير ما بعده رغم مرور ثلاثة أسابيع ألقت إسرائيل على غزة خلالها ما يعادل قنبلة هيروشيما، وظلت تقول كلاماً خارقاً يدور حول حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، مع أن إسرائيل لا تدافع عن حدودها، بل تتجاوزها، وهي دولة احتلال يشرع القانون الدولي مقاومتها، و»حماس» تبقى جزءاً من الشعب الفلسطيني، وإن كانت لا تمثله لا رسمياً ولا سياسياً.
وربما هذا إضافة إلى الغضب الشعبي العالمي، هو ما يفسر تغير مواقف فرنسا وبريطانيا وألمانيا عند التصويت على قرار الجمعية العامة، وفي سياق قراءة ما هو أبعد من الآني، يمكن الإشارة إلى أن هذه الحرب أثبتت مجدداً مركزية القضية الفلسطينية في كل ما يخص الشرق الأوسط، وحتى العالم، لما انطوت عليه من مخاطر توسيع دائرة الحرب، وبعد أن استهدفت مباشرة كلاً من لبنان وسورية، وكذلك كلاً من مصر والأردن، لأن الهدف الإسرائيلي بالتهجير يعني حل مشكلة إسرائيل الأمنية على حساب الجارتين العربيتين، رغم توقيعهما اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وهذا يعني أن اتفاقيات السلام مع إسرائيل مثلها مثل اتفاقيات أوسلو، ليست ضمانة لتوقف الأطماع الإسرائيلية لا في أراضي الغير ولا في بسط نفوذها عليهم، وتهديد مصالحهم الوطنية والقومية، وهكذا فقد تم قطع الطريق ولو إلى حين على جهد بايدن/نتنياهو لإنجاز التطبيع مع السعودية.
ليس ذلك وحسب، فإذا كانت إسرائيل، بعد شنها حرباً انتقامية ضد غزة والضفة، قد فشلت بتحقيق الهدف السياسي المباشر في التهجير، وفشلت بتجاوز فلسطين في سعيها للتطبيع مع المحيط العربي، فإنها أيضاً لن تحقق من هدفها العسكري، إلا بعضه في أحسن الأحوال، وقد ظهرت إسرائيل حتى أمام الأميركيين دون أهداف سياسية وعسكرية واضحة، ما يعني أن حربها لم تكن أكثر من انتقام وحشي أوقع ضحايا بالجملة في صفوف المدنيين، والأهم من كل ذلك أنها ظهرت كدولة مصطنعة، لا مستقبل لها وهي في هذه الحالة، التي تصر عليها، في المنطقة، ولو وقعت خمسين اتفاقية تطبيع مع الدول العربية والإسلامية، فإسرائيل بعد 75 سنة على إنشائها ما زالت بحاجة إلى الحماية السياسية والعسكرية الأميركية والغربية.
وإذا كانت الحماية الأميركية قد ظهرت من خلال استخدام أميركا الفيتو للمرة السابعة والأربعين ضد قرارات تدين الاحتلال الإسرائيلي وممارساته غير الشرعية ضد الأرض والشعب الفلسطينيين، وفي وقوفها كالعادة ضد المجتمع الدولي بأغلبيته الساحقة في الجمعية العامة، فإنها دفعت في اليوم الثاني من الحرب بأكبر حاملات طائراتها «جيرالد فورد»، مع حاملة الطائرات «آيزنهاور» إلى شرق المتوسط، وكأن لدى غزة قوة نووية، أو كأن غزة دولة عظمى عسكرياً، لكن غزة وهي رأس حربة المقاومة الفلسطينية تظل عنواناً للضمير العالمي، الذي يبدو أنه ما زال مضطراً لملاحقة بقايا عقيدة الاستعمار، وسياساته القائمة على فرض احتلاله وسيطرته بالقوة العسكرية.
وظهرت إسرائيل بعد 75 سنة على إنشائها - كما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان - آيلة للسقوط في ثلاثة أيام، دون الحماية الأميركية، وهذا يعني بكل بساطة أن إسرائيل كدولة احتلال ما زالت تتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وما زالت تفكر في النفوذ وفرض السيطرة على دول وشعوب المنطقة، لن تبقى، إلا ما بقيت أميركا نفسها دولة تفكر في الهيمنة الكونية، وأن أميركا تسارع إلى حماية إسرائيل والدفاع عن كونها دولة تمارس جرائم الحرب، ولا تلتزم بالقانون الدولي، ولا تصغي لقرارات الأمم المتحدة، ولا حتى لقوانين الحرب، وذلك لأن أميركا ما زالت تسعى للإبقاء على نظامها العالمي أحادي القطب، والذي بدأت دول وشعوب العالم تضيق به ذرعاً ولا تقبله.
وأميركا بالطبع كما هي إسرائيل، لا تقرأ أبعد من أنفها الاحتلالي العدواني، ولا تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات التي حدثت والتي تحدث كل يوم في العالم بأسره، وتكفي الإشارة هنا إلى رد فعل مندوبها في الأمم المتحدة، تلك المنظمة التي أقرت إنشاء إسرائيل نفسها قبل 75 سنة، وبشكل مشروط، بإقامة الدولة الفلسطينية وبتنفيذ قرار عودة اللاجئين، حين عقّب على قرار الجمعية العامة بالقول: إن الأمم المتحدة لم تعد تتمتع ولا بذرّة واحدة من الشرعية. وكان قبل ذلك يومين قد ضاق ذرعاً بموقف الأمين العام أنطونيو غوتيريس، في مجلس الأمن، حيث طالبه بالاستقالة والاعتذار، فيما اتخذت حكومته، أي حكومة إسرائيل، قراراً فورياً بعدم منح موظفي المنظمة الدولية تأشيرات الدخول إلى إسرائيل. كما أن وزير الاتصالات الإسرائيلي قطع علاقة بلاده بشركة «سبيس إكس»، بعد استجابة إيلون ماسك لمطالبة نشطاء منصة «إكس» المليونير بتزويد غزة بنظام اتصالات القمر الصناعي «ستار لينك» أسوة بما يفعله مع أوكرانيا واستجابته لذلك، وهو الذي كان نتنياهو قد خاطبه مداعباً برئيس أميركا الحقيقي قبل نحو شهر.
فإذا كانت المنظمة الدولية وأمينها العام وموظفوها كلهم باتوا أعداء لإسرائيل، فلم تبقَ إسرائيل نفسها دولة في المنظمة فضلاً عن كونها دولة مستقلة في إطار المجتمع الدولي؟ ولعل التنديد الشعبي العالمي الذي اجتاح كل مدن الدنيا بما فيها لندن وواشنطن ونيويورك، باريس وبرلين، رغم قرارات المنع، تشير بشكل بالغ الوضوح إلى أن إسرائيل كدولة احتلال وكدولة عنصرية، لن يكون لها مكان في هذا العالم، الذي لم يعد عالم الاستعمار ولا عالم النظام الأميركي أحادي القطبية.
أول ما سينجم عن هذه الحرب خروج بنيامين نتنياهو ومعه جوقة الإرهاب الرسمي والتطرف، التي تشمل كلاً من يوآف غالانت، وإيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، وربما تختفي أحزابهم، فيما يتراجع الليكود كثيراً، ولا يعود مقرراً في الحياة السياسية الإسرائيلية، كذلك على الأرجح أن يفشل جو بايدن في حملته الانتخابية العام القادم، ولا أحد يدري من سيكون رئيس الولايات المتحدة، لأنه ليس بالضرورة أن يعود دونالد ترامب، والذي إن عاد، فسينتقم شخصياً من نتنياهو، هذا لو بقي الأخير رئيساً لحكومة إسرائيل. وفي السياق، طويت صفحة أوكرانيا وقويت شوكة روسيا والصين في العالم، وشوكة إيران في المنطقة، والأهم هو أن يعود البحث في حل الدولتين، لعل وعسى أن تنقذ إقامة دولة فلسطين المستقلة إسرائيل من الغضب العالمي.