صراع الهوية والمستقبل الإسرائيلي

469961530777254.jpg
حجم الخط

 

الهوية، هو مصطلح يستخدم لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعة (كالهوية الوطنية أو الهوية الثقافية). الهوية أيضا، هي مجمل السمات التي تميز شخصا عن غيره أو مجموعة عن غيرها، وكل منها تحمل عدة عناصر في هويتها. فالهوية الشخصية مثلاً تعرّف شخصا بشكله واسمه وصفاته وجنسيته وعمره وتاريخ ميلاده. أما الهوية الجمعية (وطنية أو قومية) فإنها تدلل على ميزات مشتركة أساسية لمجموعة من البشر، تميزهم عن مجموعات أخرى. بالطبع، فإن أفراد المجموعة يتشابهون بالميزات الأساسية التي كوّنتهم كمجموعة، وربما يختلفون في عناصر أخرى، لكنها لا تؤثر على كونهم مجموعة، فما يجمع الشعب مثلا هو وجودهم في وطن واحد، كما أن لهم تاريخا طويلا مشتركا، وفي العصر الحديث لهم أيضا دولة واحدة ومواطنة واحدة.

كل هذا يجعل منهم شعبا واحداً متمايزا، رغم أنهم قد يختلفون في ما بينهم في الأديان واللغات وأمور أخرى. أما العناصر التي يمكنها بلورة هوية جمعية فهي كثيرة، أهمها اشتراك الشعب أو المجموعة في عوامل مثل، الأرض، اللغة، التاريخ، الحضارة، الثقافة، الطموح، المعاناة وغيرها.

تتطوّر الهويات القومية أو الوطنية بشكل طبيعي عبر التاريخ، وقد نشأ عدد منها بفعل أحداث أو صراعات أو تغيّرات تاريخية سرّعت في تبلور المجموعة. إن قسما من الهويات تبلور على أساس النقيض لهوية أخرى، فهناك تيارات عصرية تنادي بنظرة حداثية إلى الهوية، غير أن ذلك لا ولن يؤثر على ديمومة عناصر الهوية الوطنية أو الهوية القومية.

لقد حاولت الحركة الصهيونية منذ نشأتها، تحويل اليهودية إلى «هوية»، «قومية»، «أمة»، «شعب» قائم بذاته، الخ. ولذلك، ومن هذا المنطلق، من الصعوبة بمكان الحديث عن شخصية يهودية واحدة أو هوية يهودية واحدة، فقد عاشت الجماعات اليهودية في عصور وأماكن وظروف مختلفة. والصحيح أن هناك بعض الهويات تحدد في معلوماتها ديانة الشخص، مسلما، مسيحيا أو يهوديا فهناك اليمني اليهودي، والروسي اليهودي والعراقي اليهودي، الخ.

في أواخر القرن التاسع برزت الشخصية الخزرية اليهودية، عندما اعتنق ملك الخزر الديانة اليهودية، وأجبر أفراد مملكته على اعتناقها. دامت المملكة حتى القرن الحادي عشر، ثم هزمها البيزنطيون وهجّروا أهلها، فانتشر اليهود في أوروبا. بعد تجميع اليهود في فلسطين من خلال الهجرات الجماعية إليها، بمساعدة وتآمر سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين، وإنشاء دولة إسرائيل، وتهجير ما يقلّ قليلا عن المليون من أهلها الفلسطينيين، أحفاد الكنعانيين واليبوسيين العرب، فإنه مباشرة وبعد إقامة الدولة قسراً، بدأ تناقض الهويات المختلفة في إسرائيل، ولم يكن هناك من شيء يمنع تطوّر بعضها واقعيّا باتجاهات لا تتفق مع رؤية الجماعات اليهودية لنفسها، خاصّة أنه لم تكن هناك سلطة يهوديّة مركزيّة مستقلة تعنى بشأن إيجاد فهم موحّد لليهود واليهوديّة. وهكذا فقد وقع تنوّع هائل في الهويّات اليهوديّة، عبر العيش أو الاحتكاك مع عشرات التشكيلات الحضاريّة المكوّنة للشارع الإسرائيلي.

الجديرٌ ذكره، أنه في عام 1987 سعت اليهودية الإصلاحية إلى جعل الجنسيّة خاضعة لقانون العودة، وسمحت المحكمة العليا الإسرائيليّة بذلك، رغم احتجاج الحريديم (المتشددين). وبعد عشر سنوات، تمّ تعيين لجنة حكومية للتوصل إلى حلّ للنزاع حول التحويل إلى اليهودية، أو تحديد من هو اليهودي، وقد تفاقم هذا الأمر بسبب وصول جمهور المهاجرين السوفييت، الذين كانوا من ذوي أصول مختلفة. في عام 2010، تمّ تقديم مشروع قانون يسمح لمجموعة من الحاخامات الأرثوذكس المحليين في إسرائيل بإجراء التحويلات، ولكنّه يجعل من الحاخاميّة، السلطة الوحيدة القادرة على إجراء جميع التحويلات التي تتم في إسرائيل. كان ذلك وما يزال يجري، وسط احتجاج هائل من قادة الشتات اليهود. لذلك، تمّ وضع مشروع القانون على الرّف.

في عام 2014، صوّتت الحكومة المصغّرة في إسرائيل على قرار يهدف إلى تمكين الحاخامات الأرثوذكس من تنفيذ التحويلات المعترف بها من الدولة – ولكن ليس تحت سلطة الحاخامية العليا – وبعد انضمامها إلى الائتلاف الحاكم في العام التالي، نجحت الأحزاب الحريدية في إلغاء القرار. وبعد ذلك بعام، أصدرت المحكمة العليا حكمها بشأن بطلان التحويلات الأرثوذكسية الخاصّة، وهكذا تفاقمت المشكلة من جديد.

نعم، يشكّل سؤال «من هو اليهودي» خلافاً حادّا داخل الكيان الصهيوني، نقول ذلك، لأن الجماعات اليهوديّة في داخل الكيان وخارجه، لا تتّفق على تعريف محدّد لمن هو اليهودي؟ ولا على الجهة المقرّرة أن يكون شخص ما يهودياً أم غير ذلك! ولا أيضاً على الجهة المخوّلة بحسم هذا الخلاف. لقد تلّقى الكنيست على مدار عمله، مشاريع قوانين كثيرة تتضمّن اقتراحات مختلفة تم تحويلها إليه من الحكومات المصغرة «الكابينت»، يتّم بموجبها تحديد فئة يهوديّة معيّنة للتقرير في الإجابة على هذا السؤال، لكنه في كل مرّة كان يثير جدلاً كبيراً في إسرائيل، يؤدّي إلى خلافات حادّة بين الجماعات اليهوديّة المختلفة، منها مشروع قانون قدّم إلى الكنيست في يونيو2016 يقود إلى منح الطائفة اليهوديّة المتشدّدة (اليهود الأرثوذكس) «الحريديم»، صلاحية تقرير من يكون يهوديّاً، مع ما يجرّه ذلك من صلاحيات تنسحب على مجالات أخرى، لكن مشروع القرار اصطدم أيضاً بالخلافات الحادّة، ليس داخل فلسطين المحتلة وحدها، بل بين اليهود خارجها أيضاً، ولا سيّما في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث اللوبي الصهيوني الداعم الأكبر للكيان. المشروع من شأنه أن يمنح المزيد من السلطة للحاخاميّة الحريدية الأرثوذكسية في فلسطين المحتلة، ويعني أيضا أن الحاخامية الأرثوكسية هي الهيئة الوحيدة التي أذنت لها الحكومة بإجراء التحول إلى اليهودية في إسرائيل.

من جانبهم، فإن المدافعين عن مشروع القانون، يعتقدون أنه يعزّز نظام التحوّل إلى اليهودية في الكيان، ويضمن سلامته، إلا أنه أثار غضب اليهود الإسرائيليين من غير الأرثوذكس، كما اليهود الأمريكيين الذين يرون تناقضه مع التعدديّة اليهودية، في حين أنه لا ينطبق على «التهوّد» الذي يتم خارج دولة الكيان، لذا فإن زعماء يهود يخشون أن يؤدّي ذلك إلى التشكيك بصحة اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة في جميع أنحاء العالم.

حالياً، يحدّد الحاخام عملياً من هو اليهودي لأغراض الزواج والطلاق داخل إسرائيل، وبموجب مشروع القانون، إذا أراد مواطن غير يهودي في إسرائيل أن يتحول إلى اليهودية والحصول على الجنسية بموجب قانون العودة، فإن للحاخاميّة السلطة على هذه العملية، لذلك، فإن إثبات أن التحويل الذي يجري في أمريكا مثلا، لن يعترف به القانون إلا إذا تمّ من خلال نظام التحويل في إسرائيل. لغاية عام 2015، كانت الحاخاميّة تسيطر على جميع عمليات التحويل الرسميّة في إسرائيل. غير أنه في مارس 2016، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية، بأنه على الدولة أن تعترف بالتحويلات التي تقوم بها المحاكم الأرثوذكسية الخاصة، التي تقع خارج نطاق الحاخاميّة. حينها، احتفل أنصار التعدديّة الدينية بالحكم باعتباره انتصاراً، لأنه كسر احتكار الحاخاميّة الكبرى، ورأى زعماء يهود ليبراليون أن الخطوة التالية هي أن تُجبر المحكمة على الاعتراف بالتحويلات الخاصة غير الأرثوذكسية في إسرائيل، وتم تقديم التماس أمام المحكمة يطلب منها القيام بذلك. من شأن التشريع المقترح أن يطيح بالاعتراف بالمحاكم الأرثوذكسية الخاصة، ويعرقل أي إمكانية لإقرار الدولة بالتحويلات غير الأرثوذكسية داخل إسرائيل.

جملة القول إن مشكلة تعريف «من هو اليهودي» ما زالت قائمة في إسرائيل، ولا يبدو أنها ستُحلّ، لا بين الجماعات الدينية اليهودية المختلفة في إسرائيل من جهة، ولا بينها وبين الدولة من جهة أخرى، إضافة إلى الخلاف الحاد بين قيادات الجماعات الدينية في بلدان العالم، وجناحي المؤسسة الدينية الإسرائيلية (السفارديم – الشرقيين – والأشكناز- الغربيين). من شأن بقاء هذه القضية من دون حلّ، أن تفاقم من الإشكالات، التي يعتبرها معظم الإسرائيليين استراتيجية، وأبرزها الخطر الديمغرافي الفلسطيني، ظاهرة «هجرة العقول»، تناقص الهجرة إلى إسرائيل، سقوط الرافعة الأيديولوجية لدولة اسرائيل، الأزمة الاقتصادية المتفاقمة عاما بعد آخر، ثم ما يعتبره بعض اليهود أنه فقدان للعقيدة الصهيونية، الغرق في مستنقعات أخلاقية وتزايد الفساد في أوساط الطبقات الحاكمة، التمييز الطبقي والإثني بين الإسرائيليين، ازدياد التناقض بين الإسرائيليين الناتج عن طبيعتها العنصرية، افتقاد الطمأنينة في دولة العسكريتاريا، وغيرها.

بالتأكيد فإن كلّ هذه الإشكالات ستؤثر شاءت أم أبت إسرائيل على مستقبل دولتها سلبا بالمعنى الاستراتيجي.

 

عن جريدة "القدس العربي" اللندنية