روجر ولاورا اعتنقا فلسطين

102891531832457.jpg
حجم الخط

 

كم شخصاً سافر للعمل بحثاً عن دخل أفضل، معتقداً أنه يذهب لعامين أو ثلاثة، ثم "عَلِق" عشرات السنوات. وكم شاباً انضم لنضالٍ ما، باحثاً عن الشعور بالقدرة والتمكين؟. أما أن تكون قوياً وقادراً وتذهب للتضامن مع جهة ما، فأنت غالباً تذهب لتسجل موقفاً وتعود.

عندما جاء روجر هيكوك، الأميركي-الفرنسي، إلى فلسطين العام 1983، كان مختلفاً عن كل ما مضى؛ لم يكن شاباً في مقتبل العمر يبحث عن تجربة، ولم يكن بدون مكانة، جاء وهو أستاذ التاريخ في جامعة فرنسا السابعة أو Paris 7، وجاءت معه أيضاً زوجته القابلة، المؤهلة، لاورا ووك، المختصة بصحة الأطفال حديثي الولادة.

كانت حرب لبنان 1982، ومأساتها في الجو، وآمنا أن فلسطين تستحق الانفتاح على العالم، في مجالات التعليم والصحة وغيرها، وأنّ إيمانهما بالإنسانية، والعلم، والتقدم، وتجسيد آراء الفلاسفة الذين درسهم تبرر تخصيص عامين من عمرهما لفلسطين.

روجر الآن في العقد الثامن من عمره، ويلقبه بعض الأساتذة الأصغر سناً، بأنّه من "الآباء المؤسسين"، خصوصاً عند الحديث عن معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية؛ حيث يستقر حالياً، أستاذاً لتاريخ العلاقات الدولية، بعد أن أسسه منتصف التسعينيات مع إبراهيم أبو لغد وعلي الجرباوي.

لم يغادر لاورا وروجر أو "أبو علي"، صاحب النزعة اليسارية، بعد عامين لا لأنهما شعرا أنّ فلسطين تحتاج إلى المزيد، بل لأنهما شعرا أنها تستحق أن يعيشا فيها، وأن يربيا أبناءهما الثلاثة هناك. وانضمت لاورا، لمعهد الصحة المجتمعية في الجامعة.

هذا الأسبوع، لم يمنح الإسرائيليون تجديد الإقامة، وبالتالي روجر ولاورا خارج الوطن الآن.

بقيا عندما شعرا "أنّ الناس في فلسطين، اعتبروهما جزءا منهم ومن حياتهم، من مجتمعهم، من قلقهم وأحلامهم".

بعد عمله في جامعة النجاح وفي مؤسسة الحق، دخل بيرزيت العام 1985، وبقي فيها، باستثناء إجازات وتفرغ علمي، لجامعات مثل جامعة فيينا أو Collège de France.

من أول "معاركه" في بيرزيت تأييده تعريب التعليم، وهي معركة لسببين؛ لأنها كانت صعبة على مستوى الجامعة، ولأنه كان يتعلم العربية، ويقول: لعامين كنت أتخيل نفسي أعلم طلابي تاريخ أوروبا والعالم، ويعلمونني العربية. صار يُدّرس بالعربية ويشرف على رسائل الدراسات العليا بها. وجزء من جمال التجربة التي يعيها أن العلاقة الخاصة بين الأساتذة والطلاب في بيرزيت كانت تتحول لتجارب مجتمعية يتعلم منها، ويسهم بها الجميع؛ سواء بتحديات الإغلاق والتضييق من الاحتلال أو بسبب موجات الاحتجاجات الطلابية المعروفة في بيرزيت، ولكن الجميع يحترم الجميع داخل الجامعة.

عند التقاعد فكّر بهدية يقدمها لفلسطين، فتبنى تأسيس أرشيف رقمي، يجمع قصص فلسطين وينسخها من أصحابها، ثم يعيدها لهم، وتتاح كلها إلكترونياً، ومثل هذا المشرع، ما يزال روجر يناضل ليجد في آخر كل شهر، أو كل بضعة أشهر، نفقاته. وما يزال روجر يستمع أحياناً لشاعر أو إنسان يتحدث عن تجربته في الراديو، الذي يعشق السهر عليه، فيتصل بك صباحاً يسأل كيف يمكن أن نوثق أرشيف هذا الشخص.

كان بعض من حول روجر يتنفسون الصعداء بصمت عند رؤيته، ويفكرون: إذاً ما يزال روجر موجوداً هنا، ما يزال غير ممنوع.

حتى نحو عامين، كان روجر يركب الدراجة الهوائية، يضعها في منتصف الطريق، ليتفادى نزول المنحدر من البيرة إلى بيرزيت لصعوبته، ويعود مع المواصلات العامة أو زميل أو زميلة لدراجته.

كانا هنا في الانتفاضة الأولى، وحرب الخليج، وأوسلو، والانتفاضة الثانية، وما بعدها، وعاشت عائلتهما مع جيرانها أحداث تلك المحطات. وعاشا مرحلة إغلاق الطرق لبيرزيت وانتقال الطلاب والأساتذة، مشياً وعلى الدواب.

في إحدى المرات، دخل زملاء في خلاف وتّر الأجواء، فتدخل روجر بحكمة الأب المؤسس، يطلب منهم: "أرجوكم تخيلوا معي أنّ الآن هي الساعة الخامسة في اليوم الذي سبق الخلاف، كيف كنتم تشعرون إزاء بعضكم بعضا، حلوا الأمر بروح تلك اللحظة"، وناشدهم "بغلاوة" ذكرى إبراهيم أبو لغد، وذاب الخلاف.

الآن روجر ولاورا يشعران بأنهما في منفى مؤلم، لكنهما يستدركان أنه على أي حال منفى أقل معاناة من معاناة اللاجئين الآخرين.

يتساءل روجر ولاورا ومجتمعهما الفلسطيني، متى يعودان؟

 

... عن "الغد" الأردنية