الصوفيّ والقصر: قراءة التاريخ واستقراء الحاضر: القناع والتوازي

1.PNG
حجم الخط

 قدم الدكتور اليف فرانش كلمة رائعة ومؤثرة خلال ندوة لاطلاق رواية "الصوفي والقصر" للدكتور الروائي احمد رفيق عوض، والتي اقيمت في نادي حيفا الثقافي برعاية المجلس الارثوذكسي الملي الوطني بمدينة حيفا يوم الخميس.

 

وقال الدكتور فرانش إنّ كتابة رواية تاريخيّة، أو رواية تتّكئ على الحدث التاريخيّ تتطلّب ذكاء من الكاتب، بل ذكاء مضاعفًا؛ فالرواية بشكل عام تحتاج كاتبًا ذكيًّا يشغل مخيّلته، فيشعل الحبكة بتفاصيلها، ليخلق العالم الروائيّ، أو الواقع الروائيّ، وقد يفلت لمخيّلته العِنان، فيحيك الواقع على ما يرتئيه. أمّا في الرواية المتّكئة على الحدث التاريخيّ فعلى الكاتب الالتزام بحقائق قائمة، ما يتطلّب منه ذكاء مضاعفًا في اجتراح الخيال الملائم والمناسب ليتوافق مع الأحداث التاريخيّة؛ وعليه فالتوليفة التي ينسج بواسطتها الأحداث ويربطها بالشريط المتخيّل هي توليفة تعتمد على ذكاء وحنكة لا يتقنها الكثيرون.

 

وإضافة إلى الذكاء المطلوب؛ وقد انعكس ذلك في المعلومات التاريخيّة والجغرافيّة والدينيّة والسياسيّة والبناء، والشخوص، واللغة. فاللغة في الرواية تستحقّ دراسة مستقلّة للدور الذي تلعبه فيها، من لغة دالّة، ولغة إيحائيّة، واستخدام لمفردات مفاجئة وغريبة مثل: "اِلتاثَ، خاتلانا، الزُمنى، أُترج، متحاتٌّ، وغيرها". إضافة إلى الذكاء فهناك جرأة في هذا العمل، وذلك لأنّه يعتمد على نقاط لا بدّ من عدم التعاطي معها كنقاط بديهيّة، بل الالتفات إلى خاصّيّتها والصعوبة الكامنة فيها، وهي:

 

أ‌. اعتماد الحدث التاريخيّ في بناء الرواية.

 

ب‌. اختيار هذه الحقبة الشائكة بالذات من التاريخ العربيّ الإسلاميّ، وهي حقبة مليئة بالأحداث، والفتن والمناحرات والحروبات والاضطراب والدسائس والشخصيّات والأماكن إلخ...

 

ت‌. اختيار الخوض في محورين شائكين حسّاسين هما السلطة والدين، وكلاهما كحقل الألغام لا يحتملان الانحراف أو الحياد عن الطريق، فما بالكم والطريق ذاته قد لا يكون واضحًا بيّنًا طيلة الوقت.

 

ث‌. الاعتماد على شخصيّة قد تكون إشكاليّة لا إجماع حولها، تختلف فيها المصادر، وتتعدّد الآراء، وتتباين المواقف حيالها.

 

هكذا نجد أنّ هذا العمل الروائيّ عمل يجمع في طيّاته تحدّيات عديدة وصعوبات كثيرة لا بدّ حيالها من الإشادة بالجهد الكبير الذي بذله المؤلّف الأستاذ أحمد عوض فيه.

 

وفي مقابل الجهد الذي بذله المؤلّف، فقد وضعت الرواية وكاتبها القارئ في وضع يحتاج فيه إلى بذل الجهد الكبير عند قراءته الرواية، فهذا القارئ يجد نفسه، وهو منساق في عمليّة القراءة المنسابة، دون أن يعي، محاطًا أو محاصرًا بثلاثة عوامل تحيّره، وتطلب منه التوفيق بينها: يجد القارئ نفسه محصورًا داخل مثلّث من ثلاث زوايا:

 

1. زاويته الأولى هي الحدث التاريخيّ ببنوده الأربعة المذكورة (الحدث، الحقبة، السلطة والدين، شخصيّة الشيخ البدويّ).

 

2. الزاوية الثانية هي صوت الراوي أو المؤلّف وما الذي يسعى إلى قوله، أو باختصار: خطاب الرواية.

 

3. الزاوية الثالثة هي رصد القارئ للزاويتين الأولى والثانية، أو ما سنسميه التأويل الاستقرائيّ.

 

وكي نجمع ما بين الزوايا الثلاث: الحدث التاريخيّ والخطاب الروائيّ والتأويل الاستقرائيّ، لا بدّ لنا من البحث عن خيط يجمع بينها، وهو، على ما نظنّ، قد أفلحنا في رصده، وهو على النحو التالي:

 

- الحدث الروائيّ يحتلّ مكانة مرموقة في الرواية، وقد تعاطى معه الكاتب بمنتهى الدقّة والرقّة والاحترام للحقائق التاريخيّة التي بحث في أمّهات الكتب عن مصداقيّتها قبل أن يسجّلها كركيزة للعمل الروائيّ. وفي ذلك مسؤوليّة وتقييد في العديد من المواضع. لكنّ الحدث التاريخيّ قد أنصف أيما إنصاف.

 

 

- الخطاب الروائيّ يتعاطى مع هيبة الحدث التاريخيّ، يفرد له المكان، لكنّه ينسج منه وعليه قصّة السيّد البدويّ الذي يتنافس مع الأحداث في مركزيّة أو محوريّة الحضور، ونجده في أحيان معيّنة يتغلّب على الحدث المركزيّ ليتبوّأ الصدارة. يعتمد الخطاب الروائيّ على شخصيّة السيّد البدويّ- الصوفيّ العارف بالله، الباحث عن المعاني الساميّة في حياة البشر، الذائد عن حياض الدين والأرض والوجود. ليُصوّر الدين من خلاله إنسانيّ التوجّه، ليبراليًّا بالمفهوم الاحتوائيّ، قابلا لفتح باب النقاش والجدل والتقبّل. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى العنوان الثانويّ "سيرة ممكنة للسيّد البدويّ". فكلمة "ممكنة" هنا، بلغة السايكولنجوستيكس- علم النفس اللغويّ هي كلمة انفعاليّة تثير الكثير من المعاني وتخلق العديد من التداعيات لدى المتلقّي:

 

 

- أوّلا: تعفي هذه الكلمة كاتب الرواية من تبعيّة الدقّة التاريخيّة في سيرة السيّد البدويّ.

 

 

- ثانيًا: تفتح له المجال للتخييل الدراميّ وتصميم الشخصيّة بحرّيّة لتلائم الخطاب الروائيّ.

 

 

- ثالثًا: تضفي على الشخصيّة المزيد من الغموض والغيبيّة التي تكتنفها أصلاً.

 

 

- رابعًا: تُشعل خيال القارئ، وتثير تساؤلاته التي تتخبّط داخل المثلّث المذكور.

 

 

- التأويل الاستقرائيّ وهو من مسؤوليّة القارئ. وعلى هذا المحور سأركّز أكثر. بعد قراءة الرواية، والمرور بالزاويتين الأوليين: يجد القارئ نفسه أمام السؤال: كيف أقرأ الرواية، أو كيف استقرئها؟ وبرأيي فاستقراء الرواية ينحو المنحى التالي: صحيح أن الحدث والخطاب يحظيان باحترام وتقدير كبيرين نجدهما في لهجة الكاتب ولغة الرواية، لكنّ هذه الرواية، بمحوريها هذين، هي رواية القناع عن التأويل الموازي لهما، أي بكلمات أخرى: فقد اعتمد كاتبنا على الحدث التاريخيّ، واستعان بالخطاب الذي تنطق به الشخصيّة المركزيّة الجليلة قولا وفعلا وتفاعلا مع الأحداث والشخصيّات الأخرى، لكنّه رمى من وراء ذلك ليس إلى قراءة التاريخ، بل إلى استقراء الحاضر وربّما المستقبل. تاريخ الرواية هو القرن الثالث عشر، لكنّ الكاتب أراد توظيف ما حدث وقتها لتوصيف ما يجري اليوم في عالمنا العربيّ في القرن الواحد والعشرين، إنّها رواية تتراوح ما بين قراءة ما حدث واستقراء ما يحدث، علّ فيما حدث عبرة لما يحدث، وعليه تكون الرواية قناعًا لما يريد الكاتب قوله حيال الواقع الموازي للحدث التاريخيّ؛ لهذا فهي رواية القناع والتوازي. هذا التأويل قد يُقبل أو يُرفض، لكن هناك نقاطًا يمكن، من خلال التعمّق فيها، تأكيد هذا التأويل. أمّا النقاط فهي:

 

 

1. النقطة الأولى التوازي في الأماكن: ينتقل الشيخ أحمد خلال الرواية بشكل هو أشبه بالدائرة التي تغطّي العالم العربيّ، حيث يدور في أجواء هذا العالم الممتدّ من المحيط إلى الخليج، فمن المغرب إلى الحجاز، فالشام مرورًا بفلسطين الوارفة، فالعراق بأقاليمها المختلفة وزيارة الأزيديّين المرحابين، فالشام ثانية فمصر. صورة مصغّرة عن العالم العربيّ الذي قصد كاتبنا التعاطي معه، بمعناه الحديث أكثر من معناه العتيق. هذه الأماكن تنسج سويّة مفهوم الوطن الكبير، هي الوطن. يتساءل الشيخ أحمد (ص 142): "أين وطني؟" وهذا التساؤل حديث المعنى، فالوطن بمعناه القوميّ وليد الحداثة، لهذا فهو تساؤل يناسب الحقبة التي نعيش فيها اليوم، وكأنّي به يتساءل: "أين ضاع وطني؟"

 

2. النقطة الثانية التوازي في الأحداث: تتعرّض المنطقة، الوطن الكبير، إلى مخاطر تتهدّدها آنذاك واليوم، من غزاة خارجيّين وتناحرات داخلية تعصف وتدك البنيان. أقرأ (ص 142): "هؤلاء يُهلكون الأمّة، أمراء الشام ومصر يصانعون الإفرنجيّ، وأمراء بغداد والموصل يُصانعون التاتاريّ والخوارزميّ، وفي الشام يقتتل طلاب المذاهب الأربعة، وهنا يقتتل أبناء الطوائف، حتّى بلاد الحجاز يلحق بها ما يلحق بهذه البلاد. في أيّ وقت نحن؟" وهذا هو السؤال: في أيّ وقت نحن؟ وما أشبه اليوم بالأمس! فها هو العالم العربيّ تغزوه الأمم، وتأكله الصراعات، ويتهدّده خطر تحوّل الدول إلى كانتونات صغيرة أشبه بممالك تلك الحقبة حين أضحت كلّ مدينة مملكة هزيلة يقف على رأسها خراف، على حدّ تعبير السيّد البدويّ.

 

3. النقطة الثالثة، وهي الأهمّ من حيث التعاطيّ الروائيّ: وتتمحور حول استحضار شخصيّة البطل. الرواية العربيّة الحديثة، كمرآة لواقع مأزوم، أفرزت شخصيّة اللابطل، الإنسان المقهور الذي تسحقه السلطة والظروف لتمنعه من تحقيق ما يصبو إليه. وإذا ما راجعنا الأعمال الروائيّة لوجدنا شحّ أو غياب شخصيّة البطل الذي يتمكّن من إنجاز ما يريد. وبخطوة جريئة أيضًا يرسم لنا كاتبنا شخصيّة البطل، هذه الشخصيّة التي قلّ حضورها في الرواية العربيّة، لكنّه يرفع صوت الأمل. ووفق النموذج الخماسيّ لمحكّ البطولة، نجد أنّ الشيخ البدويّ يمثّل بامتياز شخصيّة البطل لتوفّر الشروط الخمسة لديه، وهي: المحفّز (أي البواعث والدافعيّة لتحقيق ما تصبو إليه)، والرغبة (أي درجة التلهُّف المبدئي عندها)، والقدرة (على تحقيق ما تصبو إليه)، والتنفيذ (أي التحقيق الفعليّ أو نضج القرار للقيام بذلك)، والنتيجة (وهي حصيلة المراحل الأربع السابقة، وبها يقاس مدى نجاح الهدف أو الأهداف التي أرادت الشخصيّة تحقيقها)، فالبطل وهو الشخصيّة المركزيّة حاضر في النصّ من بدايته إلى منتهاه، وهذا الحضور متميّز عن سواه من الشخصيّات بنشاطها وفاعليّتها في النصّ، ولهذه الشخصيّة هدف تسعى إليه، وتتحدّى الصعوبات والحواجز لتحقيقه، فالشخصيّة التي تتمتّع بهذه الصفات تعتبر، من الناحية الفنّيّة، شخصية البطل، وهذا ما ينعكس تمامًا وكلّيًا في شخصيّة السيّد البدويّ. وبما أنّنا لا يمكن أن نغيّر التاريخ، فعلى الأقلّ نصبو ونسعى إلى تغيير الحاضر فالمستقبل، وهذا ما يقصده كاتبنا بقوله في الافتتاحيّة: "لا أحد يكتفي أو يقتنع بالتاريخ كما وقع على وجه الحقيقة، الواقع ذاته لا يكفي". وأضيف من وحي الرواية: الواقع لا يكفي، بل يجب تغييره، ويمكننا ذلك.

 

 

4. النقطة الرابعة: الأحداث والخاتمة السعيدة المتفائلة. ترتبط هذه النقطة بسابقتها، وهذا ما افتقدناه في الأعمال الأدبيّة الحديثة لما يجثم على الصدور من أحداث تغتال الأمل والحلم. لكنّ كاتبنا يخرج بنداء مغاير، فنجد التفاؤل في الرواية، كما نجد الأحداث السعيدة (إلى جانب السيّئة والقاسية منها)، فأبو الخير يعود إلى أمّه من غياهب المجهول أو براثن الموت، العرب يحقّقون الانتصارات (في القدس، وفي الحربيّة إزاء غزّة، وفي المنصورة في مصر)، التحرّر من الأسر رغم قسوة الظروف (العزّ من السجن، والشيخ البدوي من السجن، وكلاهما من الاعتقال المنزليّ)، الشيخ البدويّ يلتقي العز في أكثر من مرّة، ويجدّدان العهد على التلاقي حتّى في المشهد الأخير. كلّ هذه الأحداث إنّما جاءت لزرع الأمل في حاضر ومستقبل يفوقان الماضي خصوبة وفرحًا.

 

5. النقطة الخامسة، وبها أختم: العنوان. يجمع العنوان بين نقيضين. فالشيخ أحمد لاحقته القصور وحاولت نفيه طيلة الوقت، لهذا أفأنا أشكّك بمعنى الكلمتين وبحرف الواو بينهما. فإن كان القصر بمعنى البناء أو الحكم، فقد ظهرت الكلمة بسياق سلبيّ في العلاقة مع المتصوّف، وأنا أقتبس: (ص 133): لأنّ شيخنا عبد القادر لم يزر قصرًا أو يمالئ أميرًا"، وفي (ص 150): "إذا أردت أن تسلك هذا الطريق، عليك أن تعرف كيف تبعد عن قصور السلاطين". هكذا تتحوّل واو المصاحبة التي تقع في عنوان الرواية بين الصوفي والقصر إلى معنى يعاكس دلالتها لتصبح بمعنى ضدّ بعكس المصاحبة والملازمة. فهما نقيضان لا يتوافقان. من هنا، فأنا أذهب إلى معنى آخر في دلالة العنوان وتراكبيّته. فلفظة الصوفي لم ترافقنا في الرواية إذ ذُكر فيها المتصوّف.. فلماذا يكون صوفيًّا في العنوان ومتصوّفًا فيها، لأنّ الصوفيّ برأيي كلمة أراد بها كاتبنا أن يطرح المعنى الأوسع وهو كلّ واحد فينا. الصوفيّ هو أنت وأنا وهو، هو أحمد العربيّ عند محمود درويش، إذا سُمح لي بالاقتباس والتعميم.

 

وبالتالي يكون القصر أيضًا بمعنى مغاير تمامًا للمعنى المتوقّع، فهو هنا قابل لأن يحمل معنى القصور وعدم الإنجاز. هو قصور في عمل كلّ واحد منا. وأنا أقرأ من النصّ (ص 207): "يا لملك الله الواسع، يا لضعفنا المخزي وقصورنا الذليل، من أين للقلب أن يتّسع لكلّ هذا؟"، وفي (ص 270): "الكلام في بعض الأحيان خيانة أو في أفضل الأحوال قصور". هكذا يلتئم معنى آخر في دلالات العنوان، هو: الصوفيّ: الحكيم الذكيّ المتنوّر المدرك، والقصر هو قصوره عن الرؤية والعمل. كيف يكون المرء ذكيًا حكيما وقاصرا عن الرؤية والتوقّع؟ لنجد الواو كإشارة تحذير أو استهجان. إذن يقول كاتبنا: "علينا أن نكون أذكياء حكماء، وألا نقصر عن الاستفادة من دروس الماضي وعبره"، إذا أردنا حياة أفضل. هكذا يكون الصوفيّ صوفيًّا حقًّا، ولا يبدر عنه قصور بل إنجاز واستخلاص للعبر. وهو المطلوب من العرب اليوم.