سمير أمين، لم يعد الكثير من هؤلاء..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

غيّب الموت، قبل ثلاثة أيام، سمير أمين، أحد أبلغ وألمع المثقفين العرب. وليس من قبيل المجازفة القول إن في غيابه ما يسدل ستارة بالمعنى الفعلي، والمجازي، على حقبة كاملة من تاريخ مصر والعالم العربي، و"العالم الثالث"، التعبير الذي خرج من التداول في العقود الأخيرة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية.
والواقع أن المعاني المُحتملة لوجود سمير أمين، ومكانته في الثقافة العربية، يُستمد مِنْ، ويتخلّق في، الإطار التاريخي، والدلالي، لتعبيرات كهذه. فهو، المولود في القاهرة في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، نتاج اللحظة الليبرالية في العالم العربي، بتعبير ألبرت حوراني، ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي كانت مصر من علاماتها المضيئة. 
ويمكن القول، اليوم، بأثر رجعي، إن تفاعل، واختلاط، وتجاور، الثقافات والإثنيات في الحواضر المصرية، كان بمثابة الرافعة الاجتماعية للحظة الليبرالية، وأن أمين كان نتاجاً طبيعياً لتلك اللحظة، التي أوصلها التناقض بين التعددية والحصرية القومية، مع احتدام الكفاح الوطني، إلى طريق مسدودة، وتطوّعت أيديولوجيتان هما الماركسية والإسلاموية بدعوى فتح طريق للخلاص. 
وقد كان الفرق بينهما أن الأولى تضع العدالة الاجتماعية في صميم مشروع الكفاح الوطني، وتحرر المشروع نفسه من وصمة الشوفينية القومية، وتضعه على سكة كفاح شعوب وأقوام أخرى على طريق تحرير الإنسان والأوطان، تحت، وباسم، عناوين عريضة تنتمي إلى أفضل ما أنجب القرن التاسع عشر من مفاهيم التنوير، والحريّة، والتقدّم. 
وبهذا المعنى يجد أبناء التعددية أنفسهم في لحظة وصل فريدة بين الخلاص الفردي الجمعي في آن. وبهذا المعنى، أيضاً، لم يكن من قبيل الصدفة أن ترتفع نسبة تمثيل أبناء الأقليات، والبيئة المُهجّنة والمُختلطة، في المجموعات القومية واليسارية والشيوعية التي عرفتها مصر، في النصف الأوّل من القرن الماضي.
أما الثانية فأحلّت الشوفينية الدينية محل القومية، واختزلت مشروع الكفاح الوطني في تحرير الجسد الاجتماعي من المُختلف والغريب، ولم تر في التعددية الثقافية والإثنية نتاجاً طبيعياً للتاريخ والجغرافيا، بل رأت فيها جزءاً من مؤامرة المُستعمر لإفساد الجسد الاجتماعي وتقويضه من الداخل، ولم يكن للعدالة الاجتماعية في مخيالها السياسي مكانة تُذكر، ولم تكن لبقية الشعوب المكافحة في سبيل الحرية من قيمة تُذكر، إلا إذا كانت شريكة في الهوية الدينية.
وفي سياق كهذا كانت الماركسية خياراً طبيعياً لسمير أمين، كما كان الشأن مع ما لا يحصى من أبناء جيله في مصر والعالم العربي. وقد تجلّت في سيرته على امتداد عقود طويلة كل المسوّغات التي حرّضت شاباً مصرياً، في أربعينيات القرن الماضي على اعتناق الماركسية كطريق للخلاص الفردي والجمعي في آن. كان مناضلاً وطنياً، ومثقفاً ماركسياً لا مِنْ وفي مصر وحسب، بل كان هذا وذاك بوصفه جزءاً من العالم الثالث، والعالم، أيضاً.
وفي هذا المعنى يتموضع جهده النظري البديع، وإسهامه الكبير، في إغناء الفكر السياسي، والاقتصادي في العالم. لا يقل سمير أمين أهمية ومكانة من حيث تأثيره في المناهج السياسية والاقتصادية الحديثة، في "العالم الثالث" والأكاديميا الغربية، عن إدوارد سعيد ومشروع نقد الاستشراق.
والواقع أن مفاهيم كثيرة متداولة على مدار عقود من نوع: المركزية الأوروبية، والتطور اللامتكافئ، ورأسمالية المركز والأطراف، لم يكن لها أن تكتسب مكانة مركزية في خطابي السياسة والاقتصاد في "العالم الثالث"، وفي العالم عموماً، لولا سمير أمين. ففي أفريقيا، والهند، وفي بلدان أوروبية كفرنسا، يحتل أمين مكانة مرموقة، ومن المؤسف أن نتاجه الفكري والنظري الكبير لم ينل، بعد، ما يستحق من مكان ومكانة في الجامعات العربية.
وعلاوة على هذا كله، ثمة ما لا يمكن، ولا يجب، غض النظر عنه. وأعني أن موقف أمين من الإسلاموية، لم يتغيّر. فقد حافظ على تصوّر واضح، على مدار عقود، مفاده أنها أيديولوجيا مُحافظة ورجعية، بلا مضامين للعدالة الاجتماعية، ولا تكن عداء حقيقياً للكولونيالية، وهي تقدّس الملكية الخاصة، والتراتبية الطبقية، ولا تتوانى عن عقد مساومات تتناقض مع شعاراتها الصريحة والمُعلنة.
وقد تجلى هذا الموقف، في المكان والزمان المناسبين، في سياق ثورة الخامس والعشرين من يناير المصرية، وموجة الربيع العربي عموماً، ففي الثورة، كما الموجة التي ضربت في بلدان عربية مختلفة، صعد نجم الإسلام السياسي، وسارع البعض على أمل الخروج من مأزق الاستعصاء الديمقراطي في العالم العربي، والبعض الآخر تعبيراً عن انتهازية سياسية، لإعادة النظر في قناعات تقليدية بشأن الإسلاموية، والإسلامويين، ولكن سمير أمين لم يتنازل عن قناعاته، ولم يغيّر موقفه، بل وحذّر من مخاطر الرهان على ظاهرة كهذه. لذا، لم يتحوّل إلى "مفكر عربي" على شاشة التلفزيون.
قلنا إن في غيابه ما يُسدل ستارة بالمعنى الفعلي، والمجازي. فمَن وُلدوا في النصف الأوّل من القرن الماضي لم يبق منهم الكثير. أما المجازي فيتصل بحقيقة أن الداعية، في زمن الإنترنت والفضائيات، قد احتل مكان ومكانة المثقف، الذي عرفته مجتمعات عربية كثيرة في عقود سبقت.
 لذا، إذا جاز الكلام عن حضور سمير أمين في أوساط بعينها فلا ينبغي غض النظر عن حقيقة أنه غير معروف على نطاق واسع في أوساط الشباب. ولا نعزو السبب إلى صعوبة لغته، بل إلى حصار وخنق رسالته. لم يعد ثمة الكثير، هذه الأيام، من محبي "تنغيص" الحياة بقضايا العدالة الاجتماعية، والصراع الطبقي، والكفاح ضد الرجعية والكولونيالية. ولعل في هذا، بقدر ما أرى، ما يبرر الكلام عن غيابه كخسارة فادحة، لم يعد ثمة الكثير من هؤلاء.