.الطريق إلى جهنم... رحلتي من غزة إلى مصر

thumbgen (20).jpg
حجم الخط

 

كأنك نصف رجل مسخ ، تعشق امرأة من نار عرتها الأزمنة ..امتصت الثعالب رحيقها، نهشت الكلاب الضالة جسدها جعلوه شقة مفروشة سريرها عفن

غزة مدينتي المغتصبة تعيش خريفها الأزلي ، مدينتي التي انتصرت للحياة شوهوا صورتها الجميلة ومنحوها موت مؤجل زرعوا في قلبها الخراب ، قتلوا ثورتها كي يصعدوا فوق جسدها ويحققوا نزواتهم

... مدينتي الصاعدة للهاوية أستوطنها المرتزقة فعاشت التيه

لم يعد يحميها لا صوتي ولا قلمي .. الناس مهزومة تبحث عن رغيف خبز وبطل من ورق يمنحها الأمان

حكايتي أني أحب الحياة .. أعشق بحر غزة الملوث الذي أختلط بمياه الصرف الصحي .. أعشق الشباب الطموح المغامر المعطاء وأبكي على ما أصابه من انهيارات وهو يساق إلى الفراغ ويهرب ما بين موت وموت إلى موت أقبح عناصره البطالة الانهزام والمخدرات وعدم القدرة على تكوين أسرة ..

مأساتي تكبر تصيبني غمة لشعوري بالعجز وأنا أرى جيل من الفتيات يعيشون في الهوامش يفتقدن التعبير عن مشاعرهن محرمات من أي فرصة للعمل للزواج للاستقلالية من قال أن الحرة لا تأكل من ثديها فليأتي هنا ليكفر بكل المثل الكاذبة ويغضب على الذين خانوا الأمانة وتجاروا بكل ما يستطيعوا إليه سبيلا وساهموا بالرذيلة..

عشرات النساء يبعن أجسادهن لإطعام أطفالهن شعب يحركه لصوص يجرون عليه الاختبارات وكأنه فئران التجارب يسوقونه كالقطيع للمذابح .شيء مقرف عندما تشعر بأنك مهمش لا قيمة لك حكايتي بعد أن ضاقت بي السبل وشعرت بالغربة حاولت أن أمارس حقي بالسفر كإنسان وأخرج من قفصي إلى العالم وبعد محاولات شاقة حصلت على تأشيرة لدولة عربية و في الأول من رمضان بدأت دروب المعاناة حينما ذهبت لتسجيل اسمي في كشوف المسافرين توجهت لمجمع الوزارة المسمى أبو خضرة في الرمال مقابل السرايا فقالوا التسجيل من خلال موقع الوزارة فدار بيننا مشادة كلامية مضمونها من سيكفل حقي لو كان هناك تلاعب بالأسماء لم يهتم الموظف بسؤال وعاد قائلا سجل على الموقع

 سجلت على الموقع ومرت الأيام دون استجابة وبعد يأسي اخبرني جميع الأصدقاء أن من يريد السفر عليه ان يدفع تنسيق للطرف المصري أي رشوة بواسطة الطرف الفلسطيني وهناك حافلة خاصة لفئة التنسيق تخرج يوميا وهنا أدركت السبب الرئيس من وراء فتح المعبر لا تعنيهم معاناتنا ولن يهتموا بالقصص الإنسانية وأكاذيب التخفيف عن المواطن الغزي شعارات مخادعة للصحف ..

السماسرة يستمدون قوتهم من معاناتنا يريدون امتصاص ما تبقى في جيوبنا .. نعيش زمن الاحتضار نهرب من النار إلى الرمضاء .

 ألف وأربعمائة دولار وما فوق للوصول إلى جحيم المعبر ، رغم حزني وكفر بكل القيم وشعوري بالموت استسلمت لهذا العار .

 وبعد السؤال عن عصابات التنسيق وجدت العشرات التابعين للسلطتين يتسابقون لخيانة شعبهم وعند السؤال عن هؤلاء الحثالات زودني أصدقائي ببعض الأسماء فاتصلت بالعديد منهم فمنهم من تنكر وقال لي أنه توقف عن التنسيق وأنه بالأساس لا يعمل بهذه المهنة بل يساعد قريب له من أجل خدمة الناس والسبب من وراء ذلك ربما اشتبه برقم الجوال أو بالشخص الذي اخبرني عنه وهناك من طلب مبلغ يفوق الخيال ..

وفي نهاية الأمر جميع السماسرة والتجار يدعون الشرف وبأنهم يقومون بالخدمة مجانية حرصا منهم على راحة المواطن الفلسطيني وليس لهم في الأمر لا ناقة ولا جمل ومبالغ التنسيق " الرشوة " المشروعة أمام الجميع للطرف المصري ، ولو تأخرت يوما لن يسمح بالسفر لأي مخلوق كان ... عندما سافرت ابنة خالي اتصلت بزوجها لأعرف آلية السفر فأخبرني انه دفع مبلغ ألف وأربعمائة دولار لشخص موثوق به وقد ساعدها وبإمكانه مساعدتي أن أحببت السفر بشرط أرسل المبلغ مقدما له وهو سيتطوع بتوصيله للمنسق فأرسلته وانتظرت .

 اتصل بي ليلا وأخبرني بعد يومين بإمكاني السفر ومر اليومين والأسبوع ولكن دون جدوى فشممت رائحة نصب .

 طلبت من زوجة ابنة خالي أن يعيد المبلغ فقد سئمت فكرة السفر فاتصل بالرجل وقال لي عليك أن تتوجه الآن عند دوار النصيرات في وسط قطاع غزة وسيأتي إليك من يعيد لك المبلغ فانطلقت مساءا لمدينة النصيرات ووقفت حيث طلب منه وبعد نصف ساعة قدم شخص وسيم وأبلغني اعتذاره وقال لي أن اللواء المصري مضغوط بسبب كم المسافرين الذين دفعوا وعلي الانتظار للأسبوع القادم إن كنت أرغب بالسفر فقلت له شطبت الفكرة من قاموس حياتي و أريد المبلغ .

أعطاني المبلغ ثم كرر السؤال إن كنت تريد أن تسافر غدا عليك أن تدفع مبلغ ألف وسبعمائة دولار وهذه المرة لن تتأخر فهناك سيدة موثوق بها  لها علاقة جيدة بلواء مصري بإمكانه تسهيل أمورك غدا ..

 رفضت الفكرة وأخذت النقود وعدت أدراج بيتي مهموم وبعد يومين حدثني صديقي من ماليزيا عن شخص خارق بالتنسيق وبنفس المبلغ وزودني برقم هاتفه بعد أن اخبره عن معاناتي ووعده أنه سيساعدني وسيخرجني من لعنة غزة خلال يومين .. اتصلت بالرقم ثم أصغيت لصوت مهذب يتقن الكلمات المخادعة ..

رسم نفسه علي أنه ملاك وهبه الله لخدمة البشرية وبأنه مدرسة المصداقية والأخلاق وطلب منه كرجال المخابرات أن انتظره الساعة العاشرة صباحا عند دوار الصاروخ في نهاية شارع الجلاء في الشيخ رضوان توجهت هناك وانتظرته حدثني من بعيد عبر هاتفه النقال وعندما تأكد منه اقترب واستلم المبلغ وقال لي اتصلت بأكثر من منسق لمساعدتك للسفر غدا بمشيئة الله ستسافر وستشكرني ...

وعليك الآن انتظار مكالمة تحقق أحلامك انتظرت اتصال منه وبعد ساعتين اخبرني ان هناك ضغط على حافلات التنسيق بسبب كم المسافرين وبإمكانه أن يخرجني من غزة قريبا بشرط عدم تحديد الوقت الزمني واليوم .. فعلي أن أقرر أن أحببت،رفضت الفكرة وطلبت منه أن يعيد لي أموالي وبذكاء أخبرته أنني أعرف من هو وأنه كان يعمل بالأمن الوطني بالسلطة القديمة حينها أخبرني أنه سيعيد المبلغ وعلي أن اذهب لبيته في بيت لاهيا وأعطاني العنوان كان العنوان بعيد عن بيته الذي يطل على الشارع ما يقارب مئة متر وعندما وصلت للمكان اتصلت به فأخبرني أن أتقدم باتجاه الغرب فاتجهت حتى وصلت لبيته فخرج ابنه الصغير وطلب منه الدخول للبيت فدخلت والتقيت به .

 بعد أن حدثنا عن بطولاته الوهمية ، أخبرني أنه لا يعمل بهذا المجال وهو تطوع لمساعدتي فقط من اجل صديقه الذي زودني باسمه وهو تعب وجاهد من أجل خدمتي علمت من كلامه الكاذب انه يريد أن يخصم جزء من المبلغ شربت فنجان القهوة غاضبا وعندما علمت ان ما يريد خصمه لا يتجاوز الخمسين دولار وافقت مرغما حتى أحصل على باقي المبلغ فلا يوجد بيننا أي إثبات بقيمة المبلغ فالمهربين يتبعون نفس النهج فأنت تدفع دون وصل أمنة أو أي شيء يثبت حقك .

 أخذت المبلغ ويائسة حقا من فكرة السفر بعد أن اتصلت بالعديد من المسئولين وأخبرتهم بحاجة للسفر من أجل المشاركة في مؤتمر علمي وزودتهم بالدعوة وبعد مجهودات شاقة وعدوني بالمساعدة فبقيت أيام أراقب كشوف السفر ليلا نهارا

مرت الأيام ثقيلة بعد أن طفح الكيل وحفظت أسماء المسافرين عن غيب وأخيرا كانت الصدمة السعيدة حين وجدت اسمي بالكشف الثاني طرت فرحا وحمدت الله على نعمته ..

أعدت الحقيبة وودعت العائلة والأصدقاء ولم أنام ليلتها صليت صلاة الصبح وحملت حقبتي وانطلقت لصالة أبو يوسف النجار في خانيونس وصلنا مبكرا فاستقبالنا الباعة والشيالين وأجلسونا على كرسي مدفوعة الثمن وبعد نصف ساعة قدمت شرطة المعبر وبدءوا النداء على أسماء الحافلة الأولي وبقدرة قادر وجدنا بعض الافراد من خارج الكشوف تزاحم أصحاب الحق و تعتلي الحافلة وتسرق حقوقنا وتتجاوز الأنظمة فالقانون خلق للضعفاء وهم خارج المعادلة التزمنا الصمت على أمل أن يتحقق حلمنا بالسفر وتسير الأمور ولا تتم معاقبتنا ... بعد الانتهاء من الحافلة الأولى بدءوا بسرد أسماء الكشف الثاني وكان رقمي أربعين لكن الشرطي الفوضوي لم يلتزم بالأسماء حسب الكشف فصرخت به على أمل استرداد حقي والسماح لي بالسفر لكنه وبكل حقارة قال اكتفينا اليوم بنصف الكشف الثاني وجاء دور حافلة التنسيقات فانصرفوا إلى بيوتكم ... دب شجار بيني وبينهم واتهمتم بسرقة حقي وحرماني من السفر قدم مسئولهم شرحت له الأمر .. وكيف قام الشرطي بالتلاعب بالأسماء والأرقام

لم ينصفني حاول اتهمي بأنني لم أكن موجود في لحظة قراءة كشف أسماء المسافرين لذا خرجت الحافلة دوني فدار حوار قاسي بيني وبينه وبعدها أدرك أنني من الناس التي تقاتل لأجل حقها حتى النهايات فقال أعدك أن تكون غدا من أول المسافرين فقلت له ولكن حقي الطبيعي أن أخرج بحافلة اليوم قال انتهينا ولم يبقى الا حافلة التنسيقات فهم من يدفعون والمصريين لن يسمحوا بخروج أي مسافر لولاهم وبعد مجادلات وأعترض على التنسيق أو الرشوة التي أصبحت مرتبطة بهوائنا ..

أدركت أن حرمت من السفر اليوم فعدت إلى بيتي أجر خيباتي وفي اليوم التالي تكرر نفس المشهد لكن الاختلاف كان في شخصيتي لم ألتزم النظام أصرعت إلى القاعة زحمت حتى اعتليت الحافلة وسارت بنا إلى مدينة رفح وتوقف بنقطة ثانية تسيطر عليها أيضا سلطة حماس سلمنا جوازاتنا وتكرر نفس المشهد وسألت نفسي ما الهدف من السؤال مادامت النقطة الأولى والثانية تخضع لحركة حماس والإجراءات نفس الإجراءات فقلت لنفسي ربما هناك أمر ما في نفس يعقوب بعد الفحص والتدقيق عدنا للحافلة رافقنا مسافرين جدد لا أعلم من أين أتوا كانوا بانتظارنا تحركت الحافلة عددت أمتار ثم توقفت بنقطة ثالثة فشهدت صورة الرئيس أبو مازن وصورة القائد الشهيد أبو عمار فأدركت أننا خرجنا من دائرة حماس ووصلنا لدائرة فتح تم التدقيق بالجوازات وسارت الحافلة حتى وصلت النقطة الرابعة التي تم بها ختم الجوازات وعندما اعتلينا الحافلة صدمنا بمجموعة من المسافرين تجلس في اماكننا وعلينا أن نصمت ونغير الأمكنة، فلا حول لنا ولا قوة وهنا أدركت أين يكمن سر النقاط الأربعة ما هي إلا صراع الأقوى بين تنظيمان متناحران ضحيتهما مواطن مقهور مسحوق قضى ست ساعات وهو ينتظر أن يصل المعبر المصري والذي لا يحتاج الوصول إليه أكثر من نصف ساعة .

 خرجنا من الصالة الفلسطينية للصالة المصرية وصلنا الساعة الحادية عشر والنصف صباحا وكنا أول حافلة تصلهم الا أنهم لم يكونوا مستعدين لاستقبالنا بعد انتظار تجاوز الخمسة عشرة دقيقة سمحوا لنا أن ننزل من الحافلة وتم تفتيشنا والتدقيق بالأوراق والحقائب ثم دخلنا الصالة المصرية تخيلنا أن الغمة زالت وبأننا سنسافر كالبشر .

 تسابقنا لملأ البيانات فقال الضابط المصري أجلسوا الوقت مبكر لهذه الإجراءات ستتم بعد قراءة أسمائكم من الكشوف بعدها بإمكانكم تقديم البيانات مع الجوازات .

 انتظرنا ساعات طويلة فوق كراسي خلق للتعذيب لا يحتمل الجسد وجعها .. كان باستضافتنا أسراب الذباب والروائح الكريهة وقفت أراقب وجوه الناس الهاربة من غزة الحالمة بالسفر أتأمل ملابسهم الزاهية وبهجتهم وهم يأكلون بعد أن تخيلوا أنهم وصلوا بر الأمان كيف بدأت تجف الفرحة وتذوب مع طول الانتظار ومع حرمانهم من تلبية نداء الطبيعة .. فدورات المياه أبوابها مخلوعة لن تسترك .. هجرتها النظافة منذ العصور القديمة رائحتها تصيبك بالغثيان ونحن تحت الأمر الواقع نطحن علينا أن نتصرف أن نصنع شيئا فاقترحنا أن يحمل بعض الشباب والشباب الأبواب المخلوعة ويحموا بعضهم بعضا عندما يلبوا نداء الطبيعة ... حمدت الله أنني لم أكل ولم أشرب هذا اليوم تعاملت مع نفسي كأنني صائم وأصبحت أدور في المكان أقرأ وجوه القادمين وخاص التنسيقات والذين سيستوي أمرنا وأمرهم في هذا المكان فلا فرق بين مذبوح ومذبوح في هذا القبر.

عشنا الرتابة وبعد ثلاث ساعات تم النداء على أسماءنا فقمنا بتعبئة البيانات وجوازات السفر وبقينا ننتظر حتى الساعة السابعة مساءا فنادوا على أسمائنا ووقفنا طابور للقاء المخابرات والسؤال عن السفر فتم السماح لمائة ١٢٧ بدخول مصر بينهم ما يقارب النصف تنسيق أي ما يعادل مائة ألف دولار اما بخصوص أنا وأربعة أخرين لم يسمح لنا بدخول مصر والسبب وراء ذلك ليس امنيا أو سياسيا فنحن نحمل تأشيرات لبلدان عربية كما نملك تذاكر السفر لذا ممنوع دخول مصر وجب ترحلينا كاللصوص للمطار رغم مأساة الترحيل فرحنا وانتظرنا أن ينفذ الأمر لنخرج من هذا الجحيم لكنهما تناسونا كما تناسوا الآخرين.

 تعالت الآهات فبدأت أصغي لبكاء الأطفال وألام الجرحى الملقين على الكراسي تأملت وجوههم وتساءلت ما السر وراء تحقير وعقاب هؤلاء الصغار المصابين هل هو تكميل لدور الاحتلال وحتى اكتم غضبي توجهت للمقصف لشراء علبة دخان وفنجان قهوة فأصابنا اشمئزاز من الأسعار الخرافية الجميع يتعاملون معنا على أننا مشروع تجاري الكل يتسابق ليذبح هذا الشعب المذبوح ففكرت أن اصنع شيئا للمسافرين فبحث انا ومجموعة من المقهورين عن وسيلة لصناعة القهوة فبحوزتي ما يقارب نصف كيلو وهناك قهوة مع الآخرين كل ما نحتاجه الأدوات لصناعتها انطلقنا للبحث فوجدنا مع والد جريح جهاز يغلي بها الماء الساخن على الكهرباء وبعض الكاسات البلاستيكية فبحثنا على وعاء لنصنع به القهوة وقد وجدنا طنجرة صغيرة مع امرأة حصلنا عليها وبدأنا صناعة القهوة وتوزيعها على الكثير من الموجودين ونحن نحتسي القهوة الساعة الواحدة ليلا سمعنا صوت الميكرفون ينادي على بعض الأسماء وعلمنا أن هذه الأسماء سترجع إلى غزة وقفت مشدوه أراقب تعابير العائلات وهم ينتزعون من بعضهم بعضا تتكرر الهجرة ويختلف المكان يحضر مشهد خروجنا من بيروت وتشتيت المشتت طفت في المكان اراقب معاناة الناس أوقفتني استغاثات رجل عجوز يبلغ من العمر سبعين عاما يريد أن يرافق زوجته المريضة للعلاج والتي تجر نفسها على الوكر لملم جميع التوسلات حتى البكاء لكنها لم تغيثه وترحمه وتطفي جرحه قالوا له غير مرغوب بك دخول مصر ومسموح لزوجتك لأنها مصرية تأملت زوجها تدفق الحنين من عينها قراءة صورة وقحة لعالم ليس لنا كفكفت دموعها المنهمرة من عينيها .. كفرت بكل القيم الإنسانية وأنا أتأمل لحظات الاحتضار ..

شقت الدموع ابتسم المرأة العجوز ضمدت جرح بنفسها وتعالت على الوجع ونصرت زوجها المهزوم في عينيها شدت من أزره ورفضت توسلاته للأصنام وأعلنت العودة إلى غزة فهي تكره الفراق والشتات والتهجير المبرمج .. جروا أنفسهم تعكزوا على بعضهم بعضا عائدين قرروا الموت في غزة لا يريدون علاج يوشمهم بالذل .

 أيقظني من هذا المشهد الجنائزي صيحات شابة تودع زوجها في رحلة العودة بعد أن سمحوا لها بالسفر هي وأطفالها الصغار ومنعوا الزوج انهمرت دموعها حتى أغرقت الجميع ألما وحسرة ولم يحمي لواء متقاعد جوازه الدبلوماسي من مرافقة ابنه الصغير معه رغم كل الاتصالات ومحاولات الفاشلة .

 ليلة قاتلة بامتياز ألقت فرحت أكثر من نصف المسافرين وهم عائدين إلى غزة في بحر المزلة والهون عاد المحرومين من السفر وبقينا نلملم أحزاننا ونبحث عن قطعة كرتون نضعها على الكراسي لنتحمل الابر المنبعثة من اسفلها ونحن ننزف قهرا ..

 هبت عاصفة من جهنم على المكان تحمل البعوض المتمرس بامتصاص دماء المسحوقين تعالت صيحات الجرحى فتطوعنا أن نحمل قطع كرتون صغيرة ونحرك الهواء لنخفف عنهم الحر حتى يخلدوا للنوم وبعد أن انتصروا على وجعهم وألمهم وناموا فوق الكراسي ...

 كنت سابقا قبل خروجي من غزة قد جهزت لنفسي علبة طاردة للبعوض دهنت بها جسدي وتطوع لتوزيعها على الجميع وخاصة الأطفال والجرحى والنساء وبعد ذلك صنعنا وجبة قهوة وقررت أن أكل ولم يعد يهمني الأمراض التي ستصيني لو دخلت دورة المياه، أو ماذا سيحدث لاحقا اكلت وشربنا القهوة وجلسنا نتحاور كان هناك والد شهيد وجريح ينتمي لحماس وشاب انيق مهذب ينتمي لفتح ودار حوار عن خيام العودة ونتائجها للشعب والحزب الحاكم كاد النقاش أن يفضي بمشكلة فتدخلت وتناولته من جانب إنساني وشخصته من جانب بصري و تأثير على المجتمع عندما يتحول شبابه لمعاقين حركيا عاجزين عن الحياة فشعرت أنا رسالتي وصلت .

 بعد الحوار تأملت المشهد بشكل عام فتيات وفتية مكدسين فوق الكراسي سقطت عقد الجنس في هذه الليلة وحدتنا المعاناة باستثناء رجل تجاوز الخامسة والخمسين كان يحاول التقرب من فتاة بالثلاثين بصورة انفعالية غبية سازجة ابتسمت للمشهد وحاولت الاقتراب من الرجل فوجد انه مكسور من الداخل بعد أن فقد أسرته في الحرب فقلت ليس على المذبوح حرج.

اقتربت الليلة السوداء على الانتهاء واجتمعنا لصلاة الصبح في البدء راودني فكرة عدم المشاركة بسبب عدم طهر المكان وما أصابنا من تلوت في دورات المياه القبيحة وفي النهاية صليت فإن الله غفور رحيم وبعد الساعة الخامسة والنصف تم تسليم المسافرين جوازات السفر ليخرجوا باتجاه مصر خرج الجميع وبقينا نحن الأربعة المرحلين ننتظر وعند السؤال يخدروننا بقولهم ستخرجون بعد نصف ساعة عندما يأتي مندوب السفارة الفلسطينية وقد اتصل شرطي المعبر المصري بالمسؤول بعد ان قدمنا له وجبة فطور وعلبة دخان فسمعنا المسئول يسأله عن عددنا وعندما علم أننا أربعة قال له انساهم وتناسونا .

 مع شروق الشمس وخروج الجميع أصبحنا وجبة دسمة للذباب هجم علينا افترسنا وبقينا نهرب من مكان لمكان ونغرق أجسادنا بالدهون الذي تخيلنا للحظه انه سيحمينا من عضات الذباب المتمرس المتوحش المتطفل وبدأنا ننتظر القادمين الجدد ليخففوا عنه المعاناة انتظرنا وبقينا ننتظر إلى أن قدمت الحافلة الأولى الساعة الثانية عشر تأملت الوجوه المبتسمة وهي تتسابق لدخول القاعة المصرية فرحين محلقين لا يدركون ما يخفي القدر لهم وما ينتظرهم من لعنات في الساعات القادمة .

انتهى اليوم الثاني وتكررت مأساة اليوم الاول بصورة أشمل تم تعذيب المعذبين المقهور وارجاع اكثر من نصفهم إلى غزة بعد منتصف الليل وبخصوصنا نحن المرحلين حاولنا بكل الطرق أن نطرق أبواب جهنم لنخرج من هذا الموت المعد سلفا .. فكانت إجابة المصريين المشكلة لا تكمن لدينا فنحن ختمنا جوزاتكم منذ الأمس وننتظر مندوب السفارة ليستلمكم وعندما التقينا بمندوب السفارة الساعة الخامسة مساءا قال لنا سيحاول جاهدا ان يخرجنا هذا اليوم كنت أعلم انه يخدرنا وبأننا سننام في المعبر يوم اخر وبعد اصرارنا اخبرنا أن هناك سيارة اسعاف ستنقل ميت وسيخرجنا مع الميت حتى نصل العريش بعد التنسيق مع المسئولين المصريين تخيلنا المشهد ومرافقة ميت في رحلتنا .

 رغم أنها كانت مغامرة خطرة قد تكلفنا أرواحنا ونقتل على أي حجز إلا أننا لم نتردد للحظة وافقنا وانتظرنا حتى الجنون فغزانا الليلة تراجع مندوب السفارة عن هذا الطرح وتركنا عاجزين مقهورين نمنى ليلة اخرى تأقلمنا مع الوجع أمنت حينها أن الله هجر الوطن العربي وترك لنا الرزائل والشياطين وإننا الفلسطنيين أموت نعيش جهنم بكل حذافيرها ونحاسب اليوم وبعد موتنا القادم سنبعث إلى الجنة ..

 دعا صديقي الانيق المقهور الذي كفر بالسلطات الفلسطينية المتناحرة والسفارات الفلسطينية التي لا تخدم إلا نفسها .. وكان دعائه المفضل لبيك اللهم هجرة إلى بلاد الكفر والفسق والعصيان وارحمنا من هذه الأوطان التي تهدر بها كرامة الإنسان ..

عندما جاء مندوب السفارة الساعة الثامنة تخيلنا أن الغمة انقشعت وسنخرج من بين أنياب الذل .. ونحن في طريقنا إلى المجهول شعرنا أن هناك من يعبث في جيوبنا أدركنا أنه سيتم استغلالنا ماديا سندفع نقود مضاعفة أن رغبنا الوصول للمطار سالمين لم نبالي بأي شيء كانت اقصى طموحنا أن نغسل أجسادنا بالماء ونتطهر من العفن وننسى لعنة المعبر مضت الحافلة والحافلات التي حملت المسافرين الذين سبقونا منذ الصباح فقد أخرجوهم من القاعة ليرموهم ودا في الساحة الخارجية تحت الشمس ليأكلون حسرتهم وضعفهم ..

 انطلقنا الساعة الثامنة وبعد ما يقارب من ربع ساعة توقفت الحافلات عند أول حاجز وقالوا لنا سيفتح الساعة الحادية عشر أي بعد ساعتين ونصف إلى ثلاثة ساعة ..

انتظرنا على الحاجز التقينا بالذين لم تحميهم نقود التنسيق فالحافلة التي خرجت بالأمس من المعبر وأوهموهم بأنهم مميزين بما سيدفعون وجدنهم نائمين على الحاجز أكلتهم الرتابة والانتظار..

ثلاثة ساعات عجاف امتصت ما تبقى لنا من كرامة وأشعرتنا أننا حشرات لا تستحق الحياة حين خرج مجند يصرخ ويشتم ويلعن ويهدد أنه لن يسمح لنا بالمرور التزمنا الصمت قهرا حتى تحركت الحافلات بعد الساعة الحادية عشر وبدأ مسلسل الحواجز التفتيش ،الإذلال والتحقير فما بين حاجز وحجز نبت خمسين حاجز احترفوا تجردينا من كرامتنا كل حاجز يسلمنا للأخر ويبتكر وسائل للتعذيب ،تجسدت الجريمة الكبري في " حاجز الريسة" عندما القوا الحقائب على الأرض بشكل استفزي وبدءوا ينفضون الملابس قطعة قطعه يحطوننا غيظا يصبوا علينا نظرات سافلة يبحثون في حقائبنا عن خصيانهم وانهزامهم عن طائرات وصواريخ وهمهم وجبنهم يفتشون في أرواحنا نحن المنهكين الذي أعيتهم فكرة السفر و غربلوا حقائبهم المغربة على مدار عشرات الساعات ونحن مصلوبين تحت الشمس.

 وقد حدثونا مندوبين السفارة أننا بخير ونحن متجهين للقاهرة فالمأساة تكمن في العودة وقد حدثونا عن العائدين إلى غزة لهم ثلاثة أيام ينامون في العراء على حاجز " الريسة" وكانت الطامة الكبرى عندما وصلنا المعدية ونفضوا حقائبنا مرتين في نفس المكان بداية المعدة وفي نهايتها لم يتركوا قطعة إلا وألقوها على الأرض وبعد هذا الكابوس اللعين انطلقت الحافلة تعدو إلى المطار ستة عشرة ساعة رحلة الشقاء والتعذيب والمعاناة وبعدها تم تسليمنا إلى مندوب المطار ونحن غير قادرين على الحياة والتنفس خجلين من رائحتنا الكريهة .. حاولنا مسرعين البحث عن رحلة سريعة فقد انتهى حجزنا السابق ..

 تخلصنا مما علق بنا من كوارث وتخلصنا من غرفة المطار النتنة وبعد البحث ابتسمت لنا الحياة ووجدنا طائرة تتجه إلى حيث نريد تممنا الحجز وهربنا من مندوب السفارة وذهبنا إلى العاملين بالحمامات وأعطيناهم مئات الجنيهات حتى يسمحوا لنا أن نغتسل في دورات المياه فما ذنب المسافرين أن يستنشقوا رائحتنا الكريهة وفعلا اغتسلنا وبقيت جوازاتنا مع المندوب حتى اقترب موعد اقلاع الطائرة وأخيرا تحررنا واعتلينا الطائرة أغمضنا أعيننا لحظة التحليق وتمنينا أن تصعد بنا إلى السماء ولا تعود يوما إلى الأرض

تمنينا أن نقابل وجه الله ونتخلص من شياطين الأرض لكن أجلنا لم يأتي بعد.. يبدو أن خطيئتنا في السماء كبيرة لذا وجب أن نكفر عنها في الأرض

وستتم في رحلة العودة لغزة بصراحة ما زلت خائفا أعيش لوعت السفر من غزة واليوم بعد أن سمعت أن ألف فلسطيني منذ ستة أيام ينامون في المعدية على الأرض ويلتحفون السماء وسيحتاجون أيضا ثلاثة أيام في المعبر ... كرهت نفسي وكرهت أولي الأمر بعد أن علمت أن رئيس سلطتنا وسفارتنا في مصر تعاملت مع الحدث وكأنها تعالج حالات إنسانية مجموعات من المتسولين ستحشيهم بالطعام والشراب فشكرا لهم على كرامهم فالعبد من يصنع السيد ... شكرا يا الله يا الله على هذه النعم شكرا يا الله شبعنا حياة.. فرحمنا موتا ... ارحمنا موتا .