لماذا وقع التفاهم الأميركي الإيراني؟

حمادة فراعنة
حجم الخط

وظفت الولايات المتحدة، بالتعاون مع العربية السعودية، ومعهما حركة الإخوان المسلمين، وأدواتهم الفكرية والسياسية في العالم العربي، وظفوا الإسلام والدين والجهاد، طوال مرحلة الحرب الباردة، في المواجهة الغربية الشاملة ضد الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفيتي، ونجحوا في ذلك على نحو متدرج، إلى أن حققوا الانتصار في نهاية الحرب الباردة عام 1990، حيث جاءت النتائج لصالحهم، بهزيمة المعسكر الاشتراكي والانحسار للتيارين اليساري والقومي. 
ووظفت إيران الإسلام أيضاً في معركة حماية نفسها وثورتها ونظامها السياسي، اعتماداً على إيقاظ المارد الشيعي، عبر حزب وفلسفة ورؤية ولاية الفقيه، مرشد الثورة الإسلامية، الذي امتد نفوذه وتوسع أتباعه ليشمل كل المواقع الجغرافية والبشرية التي يتواجد فيها أصحاب المذهب الشيعي بدءاً من العراق وسورية ولبنان واليمن والخليج العربي، إضافة إلى باكستان وأفغانستان والهند وأوسع من ذلك، مسجلة نجاحاً، باعتبارها حاضنة للمرجعية الشيعية والمعبرة عنه.
ولهذا نجحت إيران في أن تفرض نفسها كطرف مقرر باسم الشيعة، وأن تجلس على طاولة المفاوضات من هذا الموقع جنباً إلى جنب، ونداً بند، مع البلدان الرأسمالية الأساسية في العالم، فكانت حصيلة معركتها الانتصار والتوصل إلى اتفاق نووي يوم الثلاثاء 14 تموز 2015، والذي يعتبر بحق تحولاً في السياسة الدولية، وتغييراً للوضع الإقليمي، باتجاه الإقرار بالدور الإيراني، واحترام مصالحه والإقرار بمكانته. 
ويعود نجاح إيران من خلال التوصل إلى اتفاق فينا، إلى عدة عوامل أساسية يمكن إجمالها بما يلي: 
أولاً: حُسن الاختيار الإيراني لمصادر قوتها الذاتية وتوظيف أدواتها الدينية والمالية في معركتها ضد أعدائها وخصومها، وبراعة تسللها الإقليمي عبر إيقاظ العنصر الشيعي واستعماله أداة عقائدية لمصلحة إستراتيجية الدولة المرتبطة بنظام ولاية الفقيه وجعلهما قضية واحدة لعنوان واحد. 
ثانياً: اختيار أحد أهم عناصر توحيد المشاعر الشعبية العربية برفع شعار العداء لعدو العرب القومي وهو المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، وذلك عبر تسليح ودعم وتغطية احتياجات حزب الله اللبناني وحركتي الجهاد وحماس الفلسطينيتين إضافة إلى الجبهة الشعبية القيادة العامة، ما جعل من إيران دولة مندمجة في المعركة العربية ضد العدو الإسرائيلي، بل هي تقف في طليعة العرب للدفاع عن مصالحهم القومية والدينية.  
ثالثاً: حماية جبهتها الداخلية من أي اختراق أمني وسياسي أوعقائدي أو قومي، رغم وجود تعددية قومية لديها من الفرس والعرب والأكراد والبلوش وغيرهم، ورغم وجود تعددية مذهبية من شيعة وسنة، وهذه التعددية هي إحدى عوامل التفجير المستخدمة في العراق واليمن والسودان وسورية، ولكن الدولة الإيرانية بقيت متماسكة، تحت راية ولاية الفقيه وسياسته ورؤيته، وهذا التماسك هو الذي قطع الطريق على أي محاولات هادفة لزعزعة جبهتها الداخلية، أو إضعافها ذاتياً.
رابعاً: تحاشي التورط في أي عمل إرهابي مباشر، تنفذه قوات أو أجهزة الأمن الإيرانية، فبقيت أجهزة طهران نظيفة من التورط أو الإدانة الدولية، وبقي دور إيران وأجهزتها مسانداً وداعماً لفصائل ومنظمات غير إيرانية خارج حدودها، وهي سياسة ناجحة جعلت إيران في منأى عن الاستنزاف واستنكافها عن دخول معارك مباشرة رغم توفر الحروب البينية المتعددة على حدودها في أفغانستان وباكستان والشيشان والعراق واليمن.
 وبذلك بقيت طهران محافظة على خط سير سياسي مؤثر على تطور الأحداث الجارية من حولها، بدون أن يكون لها دور مباشر في القتال باستثناء الدور الاستشاري أو التدريبي لقواتها خارج الحدود مستفيدة من تجربة معركتها مع العراق إبان نظام الرئيس الراحل صدام حسين، وهكذا بدت إيران ذات نفوذ قوي خارج حدودها عبر توظيف قدراتها العسكرية والمالية والعقائدية بدون أن تتورط في أي من الحروب البينية المحاذية لحدودها، وهكذا بات دورها نحو حزب الله في لبنان، وأنصار الله الحوثيين في اليمن، والأحزاب والفصائل العراقية، مؤثراً، ما شكل لها عامل قوة ضاغطاً ومقرراً في سياسات البلدان المجاورة وأكسبها دوراً مقرراً على المستوى الإقليمي أعطاها القوة والحضور والنفوذ على المستوى الدولي. 
خامساً: هزيمة العراق واحتلاله وسقوط نظامه القومي فتح الطريق أمام إيران لإزالة أي عقبات تعترض تمرير برامجها وسياساتها وتوسيع نفوذها الإقليمي، إضافة إلى غياب أي دور مؤثر للسياسة الخليجية خارج مصالح وسقف ومطالب الولايات المتحدة في المنطقة العربية، ولذلك بقي الدور الخليجي أسيراً وتابعاً ومنفذاً للسياسات الأميركية وفاقداً القدرة على حرية الاختيار، ولا يملك مشروعاً قومياً يحمي مصالح الخليجيين ودورهم المرتبط بالمصالح القومية العربية. 
سادساً: استعادة روسيا لدورها وتأثيرها الدولي والإقليمي المباشر، وتحالفها مع إيران ومنعها التدخل الأميركي المباشر سواء في سورية ومن قبلها في إيران، والحيلولة دون استعمال أميركا القوة العسكرية، كما حصل مع كل من أفغانستان والعراق وليبيا وإسقاط أنظمتهم عبر التدخل المسلح في غفلة من الموقف الروسي الذي كان مشغولاً بأوضاعه الداخلية بعد الانهيار السوفيتي على أثر الحرب الباردة، ولذلك شكل الدور الروسي ومعه الصيني مظلة حماية داعمة للسياسة الإيرانية. 
لهذا الأسباب إضافة إلى الرهان الأميركي الأوروبي على دور إيراني مباشر للتصدي لتنظيمي القاعدة و»داعش»، دفع الولايات المتحدة لإعادة الاصطفاف وتغيير التحالفات والرهان على قوى جديدة صاعدة عابرة للحدود في العالم العربي استناداً إلى طرفين أولهما ولاية الفقيه، وثانيهما حركة الإخوان المسلمين بما لكل منهما دور ومكانة ومصداقية على المستوى الجماهيري، ولهذا وقع التفاهم الأميركي مع هذين الطرفين الإسلاميين ولاية الفقيه الشيعية، وحركة الإخوان المسلمين السنية، بديلاً للنظام العربي الذي تم استهلاكه وفقدان شعبيته وخسران شرعيته بعد أن تم استنزاف توظيفه طوال عشرات السنين خدمة للمصالح الأميركية ومعاركها وخاصة في أفغانستان والعراق.