كثيرةٌ هي التقلبات التي تحدث بمجتمعنا الفلسطيني في شتى مجالات الحياة، ما يجعل الفرد عرضةٌ للآفات النفسية والاجتماعية الخطيرة وفي مقدمتها ظاهرة (الانتحار)، والتي يُعتبر الطفل هو المعرض الأول والمباشر للوقوع في هذه الظاهرة، وذلك لأنّ لديه الاستعداد للتغير في المزاج بنسبةٍ أعلى من الكبير, فالطفل لم تتضح له القيم أو المبادئ أو المعايير ولا المعاني بعد؛ كما أن معدل الانتحار يزداد كلما اقترب الطفل من مرحلة المراهقة، بالإضافة إلى أنّ هناك أمهات على سبيل المثال يقُلْنَ إنه سقط من البناية ويبرِّرْنَ موت الأبناء وهو في الحقيقة "انتحار".
ولا شك أنّ الانتحار هو قرار ذاتي لمغادرة الوجود، وعنف موجه نحو الذات، أحياناً يكون رسالة إنذار نحو من يحيطون بالشخص المنتحر أو من حاول الانتحار، وأحياناً أخرى الهروب من وضعية معينة عَجِزَ الفرد عن مواجهتها والتكيف معها.
وأوضحت الدراسات العلمية المختلفة، أن هناك دلائل قليلة حول الأسباب التي تدفع الإنسان للإنتحار، فالبعض ينتحر نتيجة لمجموعة مختلطة من الأسباب، وآخرين يكون سبب قيامهم بذلك إصابتهم ببعض المشاكل النفسية.
وكشفت إحصائية حصلت عليها وكالة "خبر" الفلسطينية، من قبل مركز الميزان لحقوق الإنسان بغزة، أنّ إجمالي حالات الانتحار والتي أدت إلى الوفاة منذ يناير الماضي إلى منتصف أغسطس 2018، بلغت 12 حالة، منها 4 ذكور بالغين، و2 إناث، و6 حالات من الأطفال، بينما الضفة الغربية فقد أفاد الناطق الإعلامي باسم الشرطة الفلسطينية المقدم لؤي ارزيقات، أنّ حالات الانتحار بالضفة 13 حالة من بينها 10 ذكور، و3 إناث.
وبالحديث عن أسباب هذه الظاهرة، أوضحت الأخصائية النفسية، سهى سكيك، أنه من خلال تعاملها مع حالات الأطفال الذين حاولوا الانتحار، تبيّن أنّ بعض الحالات تُعاني مشكلات نفسية أو أكثر، ولكن في كثير من الحالات لا تكون الإصابة قد شُخصت طبياً بشكلٍ دقيق، حيث إن البعض يلجأ لذلك بسبب "الاكتئاب الحاد، الهوس الاكتئابي، الفصام، اضطرابات الشخصية الحدية، فقدان الشهية العصبي".
وأشارت سكيك خلال حديثها لوكالة "خبر"، إلى أن بعض الأشخاص يعانون من أوضاع اقتصادية سيئة، وباتوا غير قادرين على تلبية احتياجات الأبناء، أو المرور بتجربة مؤلمة مثل وفاة أحد المقربين جداً أو انتحاره أو حتى العيش تحت القصف أو الحرب أو تدني المستوى الدراسي أو الرسوب والفشل في المجال الدراسي.
التنشئة الأسرية
وقالت: إن بعض الأشخاص يعانوا (التسلط، القسوة، العنف، التنمر، الإهمال) من قبل الوالدين، وذلك في إطار التنشئة الخاطئة للأبناء في مرحلة عمرية ما من حياتهم، مضيفةً "للأسف في بعض الأحيان يترك الأثر السلبي على الطفل، كما أن مبالغة الوالدين في توقعاتهم في شأن الالتزام الأخلاقي الشديد أو التحصيل الدراسي المرتفع".
كما أرجعت ذلك إلى وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، والتي تتضمن "أفلام العنف، وقصص الانتحار، والألعاب الانتحارية وتقليد الأطفال لها"،
واعتبرت سكيك، أنّ الضغوط النفسية التي لا يستطيع الأطفال التعبير عنها ولا يحسن الأب والأم مساعدة أطفالهم للتعبير عنها، بالإضافة إلى تعرض الأطفال للتنمر من قبل الزملاء أو الاستهزاء أو الضرب أو السرقة أو التحرش، عاملاً أساسياً لانتشار هذه الظاهرة في غالبية المجتمعات.
العزلة وعمالة الأطفال
بيّنت أن الأطفال في المرحلة الحالية يعيشون منعزلين اجتماعياً في عالم خاص بهم، وعادة ما يكونون سلبيين وبمزاج سيء معظم الوقت، بالتالي يكون هذا الشخص أكثر عرضة للإصابة بمشاكل نفسية قد تدفعه للانتحار لاحقاً.
ونوهت سكيك، إلى أن عدم مقدرة الأسرة على توفير احتياجاتهم المادية، فضلاً عن تعرضهم للاستغلال الجنسي، كلها من العوامل المرصودة من مسببات انتحار الأطفال.
وحول دور تدهور الحالة الاقتصادية في الإقدام على الانتحار، أشارت "سكيك"، إلى أنه من خلال الميدان وجدنا أن العامل الاقتصادي هو الأكثر تأثيرًا ضمن مسببات الانتحار، فالفقر الذي تتعرض له الأسرة غالباً ما يتسبب في اضطرابات تمس كيانها, حيث تصبح غير قادرة على تلبية الاحتياجات والمتطلبات الأساسية لأبنائها مما يلحق أخطاء لديها بأساليب التنشئة الإجتماعية والأسرية حيث ينعكس بشكل مباشر على الأبناء.
وفي سؤال لها حول دور الألعاب الإلكترونية في الإقدام على الانتحار، أكدت على أن الأطفال يقضون معظم وقتهم على مواقع الإنترنت، فمن خلال البحث عن وسائل للانتحار أو من خلال الدخول على صفحات تناقش الأفكار التي تدعو للانتحار أو تمجد المنتحرين على اعتبار أن فعل الانتحار يتسم بالشجاعة وغيرها من الأفكار المغلوطة، وأيضًا لعب الترهيب بشكل عام سواء وجهًا لوجه (أكثر الحالات كانت وجهًا لوجه) أو من خلال الإنترنت لألعاب إلكترونية فلها دورٌ كبيرٌ في الإقدام على الانتحار.
ولفتت إلى أنه من خلال العمل الميداني وجدت أن الألعاب الالكترونية ثؤثر بشكل سلبي على صحة الأطفال سواء جلوسهم أثناء الممارسة أو تركيزهم الزائد في الألعاب أو انفعالاتهم أثناء اللعب، فطبيعة الأطفال النفسية تجعلهم يتفاعلون ويتجابون مع طبيعة ونوعية هذه الألعاب الإلكترونية، كما أن الأطفال يكونون عرضة للسلوكيات العدوانية نظراً لممارستهم المتكررة لهذا النوع من الألعاب حيث تعمل تلك الألعاب بتخطيط من صانعيها على زرع السلوك العدواني في شخصية الطفل فتجعله يميل للجريمة والقتل بطريقة لا شعورية وإنهاء حياته حيث يقلد الطفل الأبطال المفضلين لديه في الألعاب الإلكترونية فيتقمصون شخصيات غير شخصياتهم تكون مبنية حسب مبادئ وقيم البطل الذي يفضلونه وهذا يجعلهم يميلون للتقليد الذي يؤثر في المستقبل على تكوين شخصياتهم مثل لعبة الحوت الأزرق.
وفيما يتعلق بالحالات التي قامت بمتابعتها، أوضحت "سكيك"، بأنها تعاملت مع طفلة تبلغ من العمر 13 عامًا مارست لعبة الحوت الأزرق وفي مرحلة من المراحل لتلك اللعبة اكتشفت الأمر والدتها وتوجهت لي وهي منهارة، فقمت بعمل عدة جلسات مع الطفلة فوجدت الطفلة قد توصلت للمرحلة قبل الأخيرة في اللعبة، ومن المراحل التي قامت الطفلة بتنفيذها مشاهدة أفلام الرعب, الاستيقاظ مبكرًا لمشاهدة مجموعة من المقاطع تعرضها اللعبة على الطفلة مصحوب بموسيقى ذات رِتْم معين تؤثر على نفسية كئيبة, حيث تشجع الطفة على إيذاء النفس والوقوف في أماكن مرتفعة, ورسم صورة الحوت على أجزاء في جسدها بآلة حادة، كما تطلب عدة أوامر وفي نهاية اللعبة يطلب منها الانتجار, كما أن الطفلة ذكرت لي بأنها إذا قررت الانسحاب من اللعبة أو عدم تنفيذ الأمر, يتم تهديدها بإيذاء أسرتها ويهددونها بالمعلومات التي صرحت بها، وبذلك تستسلم الطفلة للعبة وللأوامر, وتم معالجة الطفلة وإنقاذها من الوهم الذي كانت تعيش به.
وحول الوسائل والأساليب التي يجب اتباعها للحد من ظاهرة الانتحار، أكدت على أنه إذا كان الطفل بشكل متكرر يقول أنا أريد أن أقتل نفسي، أو أنا سوف انتحر دائماً، خذ البيان بجدية وعلى الفور أطلب المساعدة من المتخصص في الصحة النفسية أو (العقلية)، فالناس غالبًا ما يشعرون بعدم الارتياح فى الحديث عن الموت، كما أن الآباء بحاجة إلى التحدث مع الطفل عن اهتماماته وطلب المساعدة المهنية إذا استمر القلق على الطفل بدعم من الأسرة والعلاج المتخصص.
وأوضحت العديد من الاقتراحات:
- التوعية الأسرية لأساليب التنشئة الصحية بين الآباء من خلال تقوية الوازع الديني والأخلاقي والقيمي وغرسه بشكل جيد لدى أبنائهم من خلال تدريبهم لأساليب ومهارات سليمة لتربية الأبناء, بالإضافة إلى المراقبة والمتابعة والاهتمام بالأبناء بشكل مستمر.
- كما يجب على الوالدين كخطوة أولى أن يعرفوا الأعراض التحذيرية الأولى التي تظهر على الشخص الذي ينوي الانتحار.
- وضّح الأعراض التي يتعرض لها الطفل مثلاً عندما يقول الشخص أنه يشعر بأن حياته بلا معنى أو بلا أمل وممكن أيضاً أن يعتزل الأنشطة الاجتماعية في المدرسة أو العمل ويتوقف عن ممارسة هواياته وتتغير شخصيته وتصرفاته عن السابق.
- قم بسؤال الشخص المقرب منك الذي تظهر عليه الأعراض المذكورة إذا كان ينوي الانتحار، فإذا أجابك بنعم، قم بالاتصال بالنجدة أو بالطوارئ.
- أظهر للطفل اهتمامك، على سبيل المثال الاهتمام قبل شراء أي لعبة للطفل بالنظر إلى غلافها وقراءة إرشادات السلامة المكتوبة عليها، حول نوع اللعبة وطريقة استخدامها والعمر المناسب لها، لتجنب إيذاء طفلك بدون قصدٍ منكِ، وعليكِ أيضًا تفعيل جهاز مراقبة على مواقع الألعاب الإلكترونية كي تتعرف على نوعية الألعاب التي يفضلها طفلك ومن ثم تتدخل في الوقت المناسب.
ونصحت "سكيك" الأمهات عدة نصائح، بأن لا تجعل الوسيلة الرقابية هي وسيلتها الوحيدة، فإن الاقتراب من طفلك ومصادقته ومحاولتك مشاركته في اهتماماته، سيطمئنه وسيجعله أكثر تقبلاً لآرائك، فمثلاً: إن أردتِ قول «لا» على لعبة أحبها طفلك وأنتِ تجدين فيها لعبة عنيفة أو مخالفة للأعراف أو تحث على سلوكيات تنافي الأخلاق، فعليكِ التحدث معه كصديق، بأن تخبريه برأيك في هذه اللعبة ولماذا لا ترغبين في أن يلعبها، وحاولي أن تبتعدي عن الطريقة التحكمية، وأشعريه أنكِ تحترمين خياراته حتى لا يتجه إلى العند ويصبح تمسكه باللعبة عندًا بالمقام الأول.
اقترحي عليه اللعب بأشياء أخرى، كأن تذهبا سويًا إلى متجر الألعاب التي تهتم ببيع ألعاب تنمية الذكاء، واطلبي منه أن يختار ما يشاء، شاركيه في اللعب التي تنمي الخيال والذكاء والإبداع، علميه الرسم وحب التلوين، اقرئي له قصصًا مسلية وكرريها على مسامعه أكثر من مرة واطلبي منه أن يحكيها إليكِ بطريقته.
وختمت النصيحة، بأن تجعل طفلها يشارك أصدقاءه الألعاب الجماعية ممن ليس لديهم شغف بالألعاب الإلكترونية، شجعيه أيضًا على ممارسة الرياضة التي تحافظ على رشاقة جسمه، وهو ما سيساعده في إخراج الطاقة الكامنة بداخله في أشياء مفيدة بعيدًا عن إخراجها في لعبة عدوانية، عوديه على مشاركتك في الأعمال المنزلية بطريقة تنافسية «من سينتهي أولاً»، حاولي ألا تجعلي عالمه محصورًا داخل جهاز يتحكم فيه ويؤذيه، اجعليه يرى الحياة ويتعلم أن الحياة الواقعية أجمل وأكثر مرحًا.