مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي: دلالات التنوير في الثقافة والحكم
هو العام الخامس، وهو اليوبيل الفضي معا؛ فبعودته إلى القاهرة عاصمة الثقافة العربية، بعد بضع سنوات من التوقف، إنما يشكل اليوم بعثا جديدا، كأنه انطلاقة أخرى، تصير رافعة له، تحمل قيمة الوفاء للمؤسسين، ولتراث المسرح المصري والعربي بل والعالمي، ولمصر قلب العروبة النابض، وقلب الإنسانية، كما يليق بها وبدورها التنويري.
وبالنظر إلى محاور المهرجان، وعناوين الندوات والمواضيع، نجد كيف تفوق المهرجان على نفسه، حيث ما زال يشارك العالم في التأطير والتنظير حول المسرح "أبو الفنون"، ليضيف لهذا الوعي الإنساني والعربي، بما يعمق من دور الفن في المجتمع والحياة. وغني عن القول، أن ذلك يرجع إلى رسوخ أساتذتنا في مصر، التي تتميز بكل هذا الغنى المعرفي والأكاديمي، والإبداعي، ولقوة العلاقات التي تربط المهرجان بالحركة المسرحية العربية والعالمية.
ترى كيف نفهم التجريب؟ وهل من جدوى بعد 3عقود على تأسيسه؟ إن هذا يقودنا إلى تلك السنوات العجاف التي طغى فيها ما عرف بالمسرح التجاري أو السياحي-الترفيهي، والتي ما زالت تأثيراتها موجودة حتى الآن، كما يقودنا للتطور الذي حصل للحركة المسرحية في مصر من أواخر الخمسينيات حتى منتصف السبعينيات، وهو يقودنا لتأمل تاريخ المسرح المصري والعربي (والسينما أيضا) على امتداد قرن وأكثر، لعلنا نربط ربطا كلاسيكيا بين الفنون ونظم المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية.
بنظري، لقد جاء المسرح التجريبي الذي توج بمهرجان القاهرة الذي حمل الاسم والهوية عام 1988، ليثير الفكر الفني على أمرين، الأول في الوعي المباشر حول مستوى العمل الفني والتفكير فيه، شكلا ومضمونا، والثاني كمن في وعي المؤسسين/ات الذين واللواتي نجلهم، وإن لم يتجلى مباشرة في الخطاب الفكري للمهرجان، حيث أزعم أن بذور النقد السياسي للنظم كانت قائمة، حيث لم يكن ليفوت على أساتذتنا وفنانينا في مصر العلاقة المتبادلة بين نظم الحكم والحياة الاقتصادية والاجتماعية، وما ارتبط بها من فنون ذات مستوى متدن، بعيدة عن إثارة الفكر باتجاه التغيير، وباتجاه العدالة بل والتنوير الذي أصيب بمقتل، وصولا للأسف الشديد إلى سرقة الجمهور العربي من قبل الجماعات المتطرفة، تلك إذن منظومة متكاملة!
ذلك هو التنوير في الثقافة والحكم؛ وفاء واستئنافا لحركة التنوير العربي، والتي كانت حواضر مصر عواصم لها.
واليوم، علينا أن نعيد الاعتبار، بل وأن نبحث بشكل معمق، من خلال شهادات المؤسسين ومقابلتهم، وجزء منهم بيننا اليوم، عن منطلقات تأسيس المهرجان، في ظل تلك الظروف التي سادت. وليكن الحديث فكريا بعيدا عن المبالغة والاتهام، خصوصا أن عيوننا تمتد الى المستقبل الفني والوطني والقومي بل والعالمي.
وأزعم ثانية، أن 3 عقود مرت، كان لها فضل في الارتقاء الفني، على حركة المسرح في مصر والعالم العربي، فهي وإن لم تنه ما حدث من تسطيح فني، فإنها أسست للمسرح البديل. وقد ساعد انفتاح الحركة المسرحية العربية على العالم الديمقراطي على تبادل الخبرة من جانب، وعلى دخول مجالات في التعبير والنقد، كان من الممكن لو أخذت مداها، لكان لها الأثر في تفعيل دور الفن والثقافة في دمقرطة المجتمع من ناحية، وحمايته من التطرف من ناحية أخرى.
تلك هي الجذور..
شهادتي مجروحة في مهرجان مسرحي كان من أهم المصادر الفكرية والفنية معا في الارتقاء بالوعي الثقافي بشكل عام؛ لقد تأسس المهرجان في العام نفسه الذي التحقت بالدراسة في الجامعات المصرية، فكان مصدرا لي كل عام لأنهل من أدبياته وعروضه معا، والتي حملت منها لبلدي فلسطين، حيث تعلمت منها، ورحت اكتب عن الحركة المسرحية الفلسطينية متأثرا بهذا الوعي، ولا بد أنها شكلت معهدا عاليا لتثقيف رواد المهرجان، بما حملت من وعيا معاصرا لم يكن قد وضع في الكتب الجامعية بعد.
وما زلت أذكر تلك السنوات الأربع التي قضيتها في مصر الحبيبة طالبا في قسم الأدب العربي، حينما كنت أصطحب زملائي لأمنحهم فرصة التعرّف على المسرح البديل، ولعلي هنا أذكر جهود المسرح القومي، ومسارح الشباب، وما أتيح لي وقتها من فرص المشاهدة، والتي كانت وسطا ووسيطا بين ما هو سائد، وما هو آت مع بذور المسرح التجريبي، حيث أن المسرح القومي الجاد كان رديفا للمسرح التجريبي والمعاصر.
مرة أخرى، فإن شهادتنا مجروحة في مهرجان عريق كمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي والمعاصر، لكن ازعم انه يتميز بالرقي في المجمل والتفاصيل، من حيث التراكم المعرفي في الربط بين الفكر والتنظير وبين الابداع، لعلنا هنا نذكر شيئا عن حفل الافتتاح الذي كان عالميا بامتياز.
لقد جذبنا المهرجان من الخارج كما جذب المصريين، لقد اسعدنا ان نجد القاعات مليئة من الجمهور الراقي.
أما المميز، فهو ما نشهده من الإصرار على النجاح واستئناف التنوير المسرحي في القاهرة منها وللعالم، كذلك احترام التقاليد في احترام الكوادر والخبراء ودمجنا معهم كمسرحيين من أجيال مختلفة. الاعداد والتنظيم دقيق، حسن الضيافة والرعاية، وكل هذا الدفء والحميمية. والمميز أيضا هو رغبة المثقفين في مصر على المحافظة على الدور الطليعي للثقافة العربية في مصر، ببعدها الإنساني، لان ذلك يؤسس دور مصر ام الدنيا في العالم. وادعو القراء من هنا الى مراجعة مرحلة التأسيس وما اختمر فيها وما بذر فيها من بذور فكرية ترتقي بذائقتنا ووعينا، نحن الان نستأنف قطف ثمار ذلك مسرحيا وفكريا.
ولا ننسى أدبيات المهرجان متمثلة بإصداراته المميزة والمهنية فكريا وفنيا وتوثيقيا.
تأسيس وتتويج، فما زال يؤسس كحال فكرة التجريب نفسها، وهو تتويج لكل ما يبذر من بذور إبداعية. لذلك فإننا نعلي عربيا، وعالميا من شأن هذا المهرجان.
وهذا هو الساق والفروع والأوراق والثمر..
Ytahseen2001@yahoo.com